عن الصعيد.. أي بداية؟

على مدار أكثر من خمسة عشر شهرا تجولتُ في الصعيد، بدءا من حدود بني سويف مع الجيزة وصولا إلى حدود أسوان مع السودان عند قرية أبو سمبل. طوال تلك الرحلة الممتدة كتبتُ ملاحظات عن الصعيد. لم يكن الحديث فيها مقتصرا على الآثار التي تمتد إلى فترات تاريخية مختلفة فقط. بل شملت أيضا وصفا لحياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وما يفضلونه عند المأكل والمشرب، وشكل المدن ونمط العمران فيها. وعلاقتها بتاريخها القديم، وإلى أي مدى كان هذا التراث حاضرا ومؤثرا في حياة الناس ومجتمعاتهم. عن القرى والنجوع والمدن والشوارع والطرق والموالد والأغاني والنيل وعلاقة المدينة بالريف والريف بالحضر، وكيف ينظر الناس إلى كل هذا؛ أكتب.

لم تكن تلك الرحلة الطويلة هي أولى زياراتي إلى هذا القطر المصري العريق. حيث قمت بزيارته في مرحلة البكالوريوس أثناء دراستي في كلية الآثار بجامعة القاهرة التي تقوم بشكل سنوي بإعداد زيارات أثرية إلى الأقصر وأسوان والمنيا. وقعتُ في غرام الأقصر منذ أن وطأت قدمي هناك، حتى أنني أذكر أن محطة القطار كانت تحت التطوير لدرجة جعلت من جر حقائب السفر أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك كانت الأمور تسير معي بشكل جيد دون امتعاض، كنت متحمسا لاستكشاف أغوار تلك المدينة الساحرة التي يمتد تاريخها إلى آلاف السنين.

لكنني صُدمت في الحقيقة من سطحية التعامل الأكاديمي مع المدينة. حيث اقتصرت زيارات الكلية على المعابد والمقابر المصرية القديمة فقط، فيما لم تعر الانتباه لأي شيء آخر. شعرت حينها أن زيارة الصعيد بشكل أكثر حرية من قيود الزيارات الجامعية أمر واجب؛ وقد كان. حيث قمت بزيارة الصعيد بعد تلك الزيارة عدة مرات متتالية ومتفرقة على مدار السنة، انتهاءً بتلك الزيارة شبه المتصلة لمدة خمسة عشر شهرا، والتي كان لها الفضل الأكبر في فهم الصعيد بشكل أكثر استيعابا وعمقا من ذي قبل. لذا كانت فرصة كتابة ملاحظات عن زيارتي تلك أكثر مما كان قبل ذلك.

***

لم يكن الهدف مما كتبت أن أدون يوميات لرحلة نحو مدن يختلف نمط العمران والحياة فيها عن القاهرة العاصمة. التي تفرض نفسها حتى في الزيارات التي يقوم بها الناس نحو الأقطار المصرية. فتجعل من مسألة المقارنة بها مسألة شبه مفروضة يصعب عليهم التخلص منها إلا بتعمق زائد وزيارات متتابعة. أو أن يصبح الأمر وكأنه أدب رحلات وزيارات كما الحال في كتب عديدة تناولت الصعيد من هذا الجانب الروائي الذي لا يجب نكران براعته. بل فضلت أن يكون تدويني عن الصعيد أكثر عمقا من كل هذا. أن يعتمد الأمر على البحث والتدقيق بنفس القدر الذي أعتمد فيه على التأمل والملاحظة.

استهدفت مما كتبت كبد الحقيقة نفسها، حقيقة الناس وطبائعهم دون تزييف أو مجاملة. عاداتهم وتقاليدهم الحقيقية التي تخلوّا عن بعضها وتمسكوا بالبعض الآخر دون تصنع أو مبالغة. نمط العمران المبهر أحيانا والضعيف في أحيان أخر، أوضاع الناس الاقتصادية كذلك التي لا يمكن بأي حال من الأحوال عزلها عن واقعهم المعيشي بكل تشابكاته. أن أسمي الأشياء بمسمياتها دون مواراة أو مجاملة. والأهم من ذلك كله ألا يكون تعاملا سطحيا ينحي النظر في عمق الأشياء وجوهرها الأصلي أو لوي عنق العادة وتفسيرها تفسيرا تاريخانيا لا يعبر عن حقيقتها الآن.

أزمة التمثيل!

الصعيد بالنسبة لأناس كثيرين يتمثل في مشاهد تلفزيونية عن الأعراف والثأر والأصول. دائما تضع الدراما الصعيد في هذا القالب دون تغيير. حتى مع رتابته إلا أنه لا زال يستهدف جمهورا عريضا يود التعرف على الصعيد من هذا الجانب الشيق. ربما ساعدت بعض الروايات التاريخية في صناعة تلك الحالة عن صعيد مصر وطبيعة الحياة فيه. وزاد عليه أيضا قلة زيارة الصعيد والتعرف عليه إما بسبب بعد المسافة أو صعوبة التنقل فيه. أما حقيقة الأمور فلا تُكتشف إلا من خلال التجربة والزيارة فهي خير دليل على التحقق من تلك الصورة سواءً كانت صحيحة أم خاطئة. تجربة تكون فيها حرا، تتفقد فيها ما شئت من الأماكن. وتستمع لما شئت من الحكايات والأعراف، وتمعن كما يجب في بواطن الأمور وتفسيراتها. ولا يتم هذا كله بزيارة واحدة، بل يستلزم الأمر زيارات عديدة ومتفرقة على مدار فصول السنة ومناسباتها. بداية من أول نقطة تحرك وصولا إلى آخر محطات الصعيد الأعلى.

تعددت وسائل المواصلات إلى الصعيد بطبيعة الحال، منها السياحية والوظيفية. إلا أن القطار هو أفضل طريقة يمكن الوصول بها إلى الصعيد. ليس لكونه الطريقة الأكثر راحة في كل تلك ولكنه الأكثر عمقا. يمكن التعامل معه كمفتاح تدخل به نحو المدن والقرى الصعيدية. فهي تجربة ملهمة إلى حد كبير، يختلط فيها الحديث مع الركاب عن أماكن إقامتهم ومقاصدهم المختلفة، وأسباب زيارتهم للقاهرة. فضلا عن التدقيق في أوجه الناس ومعايشة تجاربهم. وملاحظة نزولهم في المحطات المختلفة، وتدوين أسماء المدن والقرى التي يمر القطار من خلالها. ورؤية نمط البيوت الذي يظهر من الشباك ويختلف من محافظة إلى أخرى.

كيف تكون الزيارة!

أما الزيارة فلا يجب أن يقتصر الأمر على زيارة العواصم الرئيسية للمحافظات أو المدن المشهورة فحسب فالصعيد لا يتكون من تلك المدن فقط. بل ربما تعطي تلك المدن صورة مغايرة تماما عن الصعيد. فمدينة مثل أسيوط تبدو صورة مصغرة للقاهرة بمدنيتها. فلا تكاد تكتشف فيها لباس الجلباب إلا عند مواقف الأقاليم أو بعض المصالح الحكومية. ولا تكاد تلحظ لهجة متغيرة إلا نادراً، فيما تتصدر المحلات الحداثية رسم الصورة فيها. لكن التعرف على أسيوط لا يكمن إلا من خلال جولات متعددة داخل القرى والنجوع والأحياء خارج حدود العاصمة. وفي الصحاري وعلى ضفاف النيل والتُرَع. التي يصل إرث الناس فيها إلى درجة من درجات التعقيد الذي يصعب أحيانا على المرء فهمه. لكنها في النهاية ترسم لك صورة حقيقية وواقعية عن حياة الناس فيها.

صحيح أن بعض المدن لا زالت تحافظ على رونقها الصعيدي الأنيق مثل مدينة قنا. التي يتربع فيها عبدالرحيم القناوي على عرش السلطة فيها بمآذنه المرتفعة الجذابة التي تلفت انتباه أي زائر من أول وهلة. إلا أن للقرى في قنا عبق أثير أيضا، فزينة البيوت وحكايات أبوزيد الهلالي المرسومة وصناعة الفخار والموالد المتعددة تتأصل فيها تأصيلا مبهرا.

وعلى قدر رونق وجاذبية الآثار المصرية القديمة في الأقصر بشتى فروعها. بدءا من تلك المنازل التي بنيت بالطوب اللبن للعمال انتهاءً بأعلى درجات الفن على جدران المقابر لا يجب أن تحتل الصدارة وحدها. فعمارة المنازل ونمط العمران في الشوارع والحكايات في إسنا كفيلة هي الأخرى أن تبهرك بنفس القدر. ومنظر النيل واختلاطه بالصحراء ونقاء الخضرة في المنيا. وسواد الأحجار اللامع على نيل أسوان قدار أيضا على صنع لوحة فنية من نوع آخر.

من بني سويف لأسوان

عبر سلسلة من المقالات المتتالية عن الصعيد. سنتحدث عن كل ما يتعلق بهذا القطر المصري العريق في يومنا هذا بقدر من الوعي والمسؤولية. في رسم صورة حقيقية عن الصعيد الذي ربما لم يتمكن الكثير من زيارته والتعرف عليه بالقدر الكافي. بدءا من بني سويف التي تعد جغرافيا أولى محافظات الصعيد، وصولا إلى النوبة التي تعد كذلك آخر حدوده. ستعتمد المقالات على ناحية الموقع الجغرافي كأساس تنقلي في الصعيد، بدءا من أول محافظة من ناحية القاهرة وانتهاءً بآخرها.

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: «زكي محمد خطاب» الأزهري قائد الشمامس