عرض كتاب| رواية هانا.. من الأدب السلوفاكي
كتب – مارك أمجد
من النادر أن نجد رواية أو فيلم يدوران حول عالم كابوسي، دون الانزلاق لفخ التراجيديا المبالغ فيها، وأحيانا من كثرة تفاصيل الموضوع وتفاقم سوداويته، نأخذه بالمجمل، دون التدقيق في تفصيلة بعينها، أو مسار درامي محدد، الأمر الذي يفقد العمل الفني أي بريق، وطبعا تكتيكات المؤلف، هي التي تلعب الدور الأكبر في تحديد مثل هذه المسائل؛ ولهذا اخترت رواية هانا للكاتب السلوفاكي بافل تاوسيج، وهي رواية متشائمة جدا، كُتبت بحس ساخر خفيف، كأن الكاتب وهو يسردها يقول لشخصياتها رغم قبحكم، أشكركم على وجودكم في الحياة، فلولاكم ما كتبتها.
تدور الرواية في دار نشر سلوفاكية شيوعية تُدعى “بلتريا”، وفي يوم يتم توظيف هانا في مكتب سجلات الدار بأوامر من الأجهزة الأمنية، ذلك بعد أن فصلوها من مدرستها الثانوية ورفدوا والدتها من وظيفتها، وقد انطلقت كل هذه الأحداث من لحظة القبض على الأب في قضية تخص شرف الدولة القمعية، لتصير الابنة بذلك العائل الأول للأسرة. لكن بالإضافة لجني المال اللازم، توّجد هانا لنفسها وظيفة موازية، وهي محاولة العثور في عالم الدار على شخصية واحدة سيادية تمكنها من مجرد الوصول لأبيها، كي تعرف بالضبط ما الجرم الذي أُمسك بسببه.
في الدار، تكتشف هانا حقيقة مجتمعها المزيف، لأن الدول دوما تُعرف من طبيعة مؤسساتها، هناك مثالية فجة هشة؛ ففي أحد الفصول يشرح المؤلف بالتفصيل إجراءات التحقيق مع كل الموظفين بالدار كإجراء روتيني، وإبان التحقيق يُسأل الأفراد العاملين أسئلة عامة تتعلق بثقافة بلدهم وتاريخها وحاضرها ورموزها، وتدور حول مصطلحات شيوعية ثقيلة، ومَنْ يظنوا أن معلوماته لا تؤهله كي يظل في منصبه، يُرفد أو أقله ينزل درجة، ثم تأتي المصيبة الكبرى حينما تكتشف أن الشخص الوحيد الذي ترتاح له في الدار وتقرر مصادقته، وهو عامل الهاتف، يختفي بشكل قسري بسبب تفوهه بأشياء ليست في صالحه، لكن مع كل هذه الصرامة، تُفاجأ هانا بانحراف شديد يسيل كالمياه على بلاط المؤسسة، علاقات جنسية كاملة تتم بين الموظفين والموظفات في مكاتب الدار ودورات مياهها، وأنها الفتاة الوحيدة في هذا الماخور التي لا زالت تحتفظ بعذريتها، رغم أنها مخطوبة، وقد كان هذا مثار تهكم من زميلاتها، كما تتعرف لأول مرة على المعايير المهنية الخفية لترقي الموظفات أو أسباب اختيارهم لسكرتارية أي رئيس من البداية، إذ يتوقف هذا الأمر على المواصفات الجسدية، قبل العقلية، وطبعا فهمت أن موقعها الحالي ارتبط دون قصدها بصغر سنها وجمالها وعذريتها.
أول الأمر تندهش هانا من ديناميكية الأمور، كيف يمكن لزميلتها التي تحب زوجها ولديها أطفال، أن تذهب مع المدير لقضاء إجازة نهاية الإسبوع في بيته الريفي، وكيف يمكن للزميلة فلانة أن تخون زوجها مع زميل، ثم تخون هذا الزميل مع واحد ثالث. وتفكر دوما في خطيبها الذي لا يزال صغيرا في السن، وترى أنها بحكم وظيفتها القاسية وبحكم وجودها في هذا المبنى الجحيمي، صارت على وعي سياسي يفوقه بمراحل، رغم انخراطه في بعض الأنشطة الطلابية، التي تعتبر بالنسبة لها سلوكيات مراهقين.
لا يمكن تحديد سبب بعينه هو الذي دفع هانا أخيرا أن تشعر بتقززها من أنها لا تزال عذراء، هو مزيج من تقليد زميلاتها ودفعهن لها وافتقار خطيبها للفحولة، وفضيلة اغتصاب الأشياء التي يتميز بها مديريها في العمل، وتفضّلها في العلاقات النساء، أضف إلى أنها وجدت نفسها بين ليلة وضحاها بين تروس مؤسسة إما أن تسايرها أو ستبتلعها، لكن السبب الأهم بين كل هذه الأمور، هو اعتقادها التام، بأن أبيها لن يرى زوجته مرة أخرى، إلا بجهود ابنته الحثيثة داخل هذه الدار الشريفة.
بافل تاوسيج: كاتب وممثل سينمائي، ولد في براتسيلافا بسلوفاكيا عام 1933، من أشهر أعماله رواية “كوليا” التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1996، وحازت على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
الرواية صادرة عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع عام 2015 في 260 صفحة من القطع المتوسط.
المترجم؛ غياث الموصلي: طبيب وكاتب ومترجم سوري من مواليد حمص 1945 ترجم أعمالا عديدة عن السلوفاكية والتشيكية منها: “مذبحة في بيروت، شعر” و”ما لذة السلطة، رواية”. وله ترجمة صادرة عن دار الكتب خان للرواية الشهيرة “الموت يدعى إنجلخن”.
تعليق واحد