عرض كتاب| أتاتورك وخلفاؤه.. لـ«مصطفى الزين»

كتب – مارك أمجد

يعد الاطلاع بشكل عام على سيرة رجل فذ وصلب من طراز مصطفى كمال أتاتورك (تعني أبو الأتراك) شيء في غاية الأهمية لأي شخص مهتم بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة حينما نكتشف أنه كان على درجة عالية من الإلهام لزعماء سياسيين آخرين أتوا بعده في دول أخرى، وساروا على نهجه، وعلى رأسهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي قالها بالحرف حينما قرأ كتاب “الذئب الأغبر” من تأليف الكاتبة ارمسترونغ عن حياة أتاتورك: “قراءتي لهذا الكتاب غيرت مجرى حياتي”. وفي مشهد آخر جهر بالعلاقات المصرية – التركية على هذا النحو: “كل ما يصيب تركيا يصيبنا”. والحق أن عند قراءة سيرة كل من الزعيمين، رغم أن كل منهما عاش في بقعة مختلفة وتوفي أتاتورك بزمن قبل قيام عبد الناصر بثورة 52، إلا أننا نجد مسارات كثيرة مشتركة، حتمتها البيئة الواحدة المشتركة بين مصر وتركيا من حيث صراع التطرف الديني مع الدولة العلمانية ومع البرلمان والأحزاب، وفي النهاية الفلاحين الفقراء الذين لهم اهتمامات ومخاوف أخرى. خاصة وأن كل من المجتمعين؛ التركي والمصري، وقت أتاتورك وعبد الناصر قاما على الزراعة، ولم تكن الصناعات أخذت البعد الحالي، بل كانت هذه الصورة مجرد حلم في ذهن أتاتورك، يتخيل نفسه فيها وهو يلحق بالدول الأوروبية، وأن يتعلم الأتراك الحرف بدلا من الاعتماد على الأجانب من الأرمن واليونانيين، وهو نفس الهاجس الذي داعب محمد علي قديما، وعبد الناصر حديثا.
ولد أتاتورك عام 1881 في بلدة “سالونيك” من أسرة بسيطة ماديا وثقافيا. وبسبب سيطرة أمه، دفعوا به إلى المدارس الدينية أول الأمر، لكن سريعا ما سيكتشف الصبي أنه غير متحمس بالمرة لمثل هذه التعاليم، كان متمردا منذ الصغر وكثير الشجار مع زملائه في المدرسة، وكثيرا ما كان يعود لوالدته بنزيف أو كدمة بسبب إصراره على أخذ حقه من شلة تنمرت عليه. وظل هكذا يرتطم بين رغبات أمه وأبيه ومعلميه حتى اقترح الوالد مرة أن يلتحق الولد بالمدرسة الحربية، وهنا شعر أتاتورك أن شيئا عظيما ينتظره خلف هذه الدراسة، وطمح في ارتداء البذلة الموشاة بالنجوم والنياشين، وتخيل نفسه قائدا يركب فوق الخيل لا يقل مهابة وانتصارا عن صلاح الدين والسلطان الغازي محمد الفاتح. وبالفعل ستدور الأيام وسيصير مصطفى كمال؛ الجنرال أتاتورك الغازي.
نبغ مصطفى في العلوم العسكرية وأحرز أعلى التقديرات في المدارس وكان دوما أول دفعته فنال الترقيات بصورة أسرع. لكنه لم يكن راضيا عن نظام الخلافة العثمانية لبلاده (الرجل المريض كما لقبها الأوروبيون وقتها) وكان يرى أن الحل الأمثل لنهضة المجتمع هو فصل الدين عن الدولة، وإسقاط الخلافة الإسلامية دون المساس بتعاليم القرآن وسننه، خاصة وأن الطرق الصوفية في المجتمع التركي كانت منتشرة لدرجة فاح معها الجهل والإيمان بالأساطير والغرائبيات. وبالفعل اضطلع في بعض التنظيمات المناوئة للسلطان الحاكم وبعضها كانت عبارة عن تجمعات لقيادات كبيرة بالجيش أو اتحادات أجنبية ماسونية يمولها يهود يرغبون في القضاء تماما على الرجل المريض. وأذاه اشتراكه في مثل هذه الانقلابات فتعرض للحبس والتنكيل عدة مرات، ولم يشفع له سوى مهاراته العسكرية واحتياجهم إليه في صفوف الجيش، خاصة وأن العالم كان مقبلا على الحرب العالمية الأولى، وبلا شك ستتورط تركيا في تلك الحرب ولن تستطيع الوقوف على الحياد طويلا، بسبب تلامسها مع ألمانيا في أمور عسكرية كثيرة، إذ أن أغلب الخبراء الأجانب في الجيش التركي، أضف إلى الطائرات والمدافع والبنادق، جميعها كانت ألمانية الطراز.
أما سياسة أتاتورك فكانت ضد أي تدخل أجنبي سواء بالمساعدات أو التحكم في السياسات، وضد دخول حرب عالمية بجيش يحاول أن يلم شتات نفسه، وتسليحه يكاد يسمح له بتأمين ثغراته وحدوده، لا أن يتورط في معركة قاسية مع دولة قوية مثل بريطانيا استطاعت أن تحشد جيوشها في مصر والمنطقة العربية وتحارب بها الأتراك، وذلك عبر عميلها الأسطوري “لورانس” الذي نجح في توحيد القبائل العربية وأقنع الأردنيين والسعوديين أن يتبعوه، فكان يفجر خطوط سكك حديد تركيا ويهاجم مقرات الجيش وينهب مواردهم، وكانت النتيجة تكبد الدولة العثمانية خسائر فادحة وطبعا خسارة ألمانيا، وهنا بدأ يستفيق الأدراك وأدركوا فعلا أن لا الخلافة الإسلامية وطرق الأمس القديمة، ولا الاختباء خلف صفوف الألمان، سينقذهم أو يخلق لهم كرامة وهيبة دولية أمام أوروبا.
وهو بالضبط ما حققه أتاتورك بمجرد وصوله للحكم
في الجانب الاقتصادي
عمل على ترحيل كل الجاليات الأجنبية من أرمن ويونانيين وبلغاريين بسبب سيطرتهم على أسرار الحرف، وأمر بإنشاء ورش يتعلم فيها الأتراك مهارات وأشغال صناعية تجعل كل سلعة يستخدومنها تركية الصنع بشكل خالص. واستدعى بعض الخبراء الأجانب كي يعلموا أبناء الشعب ثم يعودون لأوطانهم مرة اخرى. وأغلق جميع المدارس الدينية وأقام بدلا منها مدارس حرفية.  
في الجانب الديني
أسقط الخلافة الإسلامية وحجّم دور الشيوخ ورجالات الدين، بسبب انتهازهم لعِممهم وتدخلهم في كثير من الأمور الدينية، فحدد لهم ما يتكلمون فيه وما يحذرون مغبة مناقشته. وجعل المنابر فقط هي أماكن الوعظ والإرشاد والتعليم، فأغلق التكيات والزوايا والأضرحة وحلّ جميع الطرق الصوفية، متعجبا كيف يترك الإنسان المتدين نِعم الله ويطلب شفاعة رجل ميت سيحاسب مثله. كما ألغى أتاتورك الحجاب وأجبر النساء على السفور وهدم المشربيات التي كن يطلعن من خلفها على مجتمعهن. وطبعا كل هذه التغييرات لم تمر مرور الكرام، إذ تعرض أتاتورك لتُهم طالت إسلامه ونعتته بالكفر والزندقة ومحاولة التشبه بالغرب المنحل الملحد.
في الجانب السياسي
أعلن أتاتورك الجمهورية العثمانية، ليكون بذلك أول رئيس لتركيا. كما صارح النواب والأحزاب من البداية بأنه لا يعرف في طريقة حكمه سوى الديكتاتورية، لأنها الطريقة الوحيدة الجديرة بإنقاذ الأتراك في الوقت الحالي، ولأن الشعب غير قادر على التعامل بطرق الأوروبيين الديمقراطية الراقية، إذ كيف يأخذ بيد مريض عانى من الألمان والإنجليز ويطالبه فجأة بأن يسير بين ليلة وضحاها على نهج إنسان سوي طبيعي. ولم يظهر أدنى شفقة لمعارضيه فسجنهم ونفاهم وأعدم من تآمروا ضده وفكروا مجرد تفكير في اغتياله.
في الجانب الثقافي
أحرز أتاتورك في هذا الصدد إنجازين لم يتحققا له بسهولة بسبب صلابة الشعب التركي:
الأول هو استبدال القبعة الأوروبية بالطربوش الذي تعودوا عليه منذ قديم الأزل. وكانت هذه لقمة سائغة لمعارضيه كي يهيجوا الشعب ضده ويؤكدون على التصاقه بالغرب وميله إلى التنصل من الخلفية الإسلامية. لكنه لم يهتم لكل هذا، وأجبر قادة جيشه وجنوده على ارتداء القبة مثله كي تقلدهم الجماهير، بل وأصدر أوامره للدرك باعتقال أي مشاغب يحث الناس على معارضة هذا القانون، ورويدا رويدا صاروا يقبضون على أي شخص يرتدي الطربوش. وكان لأتاتورك ما يريد، حتى أن ارمسترونغ يذكر واقعة بكتابه “الذئب الأغبر” أن الأتراك في يوم انهالوا على محل ما بالسوق يملكه أجنبي، وسرقوا كل القبعات الموجودة في واجهته ومخزنه كي يتقوا شر الدرك.
القرار الثاني كان استبدال حروف اللغة التركية من العربية إلى اللاتينية، لأنه حتى ذلك الوقت كان الأتراك يكتبون ما ينطقونه بحروف العرب، أما أتاتورك فكان يرى أن كتابتها باللاتينية أسهل وستجعل أي تركي قادر على القراءة والكتابة. أيضا غامر وترجم القرآن للتركية، إذ كان ممتعضا من فكرة أن يردد أبناء شعبه كلام الله كالببغاوات دون فهم كلمة واحدة منه. وحينما ذهبت بعثة من المشايخ إليه في قصره، جابههم بسؤال لم يجدوا له ردا: “ألا يفهم الله اللغة التركية؟”.
الكتاب صادر عن دار الكلمة للنشر ببيروت طبعة أولى عام 1982 من تأليف مصطفى الزين في 350 صفحة من القطع المتوسط، يتخلله ملحق صور فوتوغرافية للمنزل الذي ولد فيه أتاتورك في “سالونيك” ومنزله وضريحه في أنقرة وصور لهم بذلة الجيش واللباس الليبي، وصور أخرى أسرية بعض الشيء، وصور لشعب تركيا ونحيبهم عليه يوم تركهم وتوفي عام 1938.

مشاركة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر