طقوس القاهرة لاستقبال شهر رمضان

هاتوا الفوانيس يا ولاد
هاتوا الفوانيس
هنزف عريس يا ولاد
هنزف عريس
هيكون فرحه تلاتين ليلة
ازدحام مروري خانق، وجحافل من البشر في كل مكان، ونشاط تجاري في الشوارع، وأضواء تنير واجهات المحال بشكل مبهج، وحواري ترتدي حلة من الزينة بألوانها المختلفة، وشوادر بائعي الفوانيس تظهر، والنصبة تبنى لصانعي الكنافة في الأحياء الشعبية، وباعة المخلل يرصون البرطمانات بديعة الألوان، وفوق كل هذا صوت أجش يأتي من بعيد يخترق أذنك يقول: “رمضان جانا وفرحنا به.. أهلا رمضان”. هكذا تكتمل الحالة التي تعيشها شوارع القاهرة استعدادًا لاستقبال شهر رمضان الكريم، فالعاصمة المصرية لها طقوسها في استقبال شهر الصيام والتي تحولت إلى ملمح أساسي ومكون صريح في وجدان القاهرة المدينة التي لا تنام.
تحول شهر رمضان في الاجتماع القاهري إلى كرنفال شعبي يمتزج فيه الديني مع الاجتماعي، حالة إبداعية انصهرت فيها مكونات من كل أنحاء مصر لتكون لوحة تحولت مع الوقت إلى أهم مظاهر الاحتفال باستقبال شهر رمضان في القاهرة. ومنها أعيد تعميم هذه المظاهر في المدن المصرية المختلفة، ثم أصبحت علامة على روح المدينة في أيام شهر الصيام، بصورة لا يمكن إلا أن تستعدي عند رؤيتها القاهرة ومعالمها، هنا تظهر روح المدينة وتتجلى كأقوى ما تكون.
التقاليد المستمرة بالتوازي مع العادات الشخصية على هامش الشهر وطقوسه تصنع حالة شديدة السخاء والثراء والتنوع. الاستعدادات الأولى لاستقبال شهر رمضان، تبدأ في نصب شوادر بيع الفوانيس، إحدى أهم أدوات الزينة المرتبطة برمضان في المخيلة المصرية، في الشوارع والحارات. فالكثير من هذه الأماكن المخصصة لبيع الفوانيس تنتشر في الأحياء الشعبية منذ نهاية شهر رجب وبداية شهر شعبان، لتكون أول علامة على اقتراب حلول شهر رمضان. هذا التنبيه البصري هو أول ما يخاطب العيون ليذكرهم بموعد اللقاء المقترب.
***
يرتبط الفانوس بشهر رمضان في مصر بشكل واضح وصريح. نعلم أن الشهر قد اقتربت لياليه عندما نرى نصبة الفوانيس تنتشر هنا وهناك في شوارع المحروسة. ورغم أن الفانوس الآن بات يلعب الدور الأكبر في الزينة في عصر انشغل فيه الأطفال بالألعاب الإلكترونية، فلم نعد نرى الأطفال يحملون الفوانيس الصغيرة ويضحكون وهم يسرحون في حواري المعزية القاهرة، كما تحمل لنا الذكرى القديمة لعصر فات.
لكن على كل حال لا يزال الفانوس ملكًا في رمضان؛ تراه في زينة الشوارع وشرفات المنازل ومداخل المحلات والمقاهي، وهو ختم مصري ما أن تراه في أي مكان حتى تسمع بلا كلمات أغاني رمضان الشهيرة، وتتذوق بلا طعام حلاوة الحارة القاهرية. فالفانوس صار علامة على احتفالات المصريين بالشهر الكريم، والجميع لهم مقلد وعنهم يأخذ عادة الاحتفاء بالفوانيس.
أشهر أماكن بيع الفوانيس تظل في منطقة السيدة زينب بجوار مشهدها المزدحم بالمحبين، وتحديدا في شارع السد البراني، وكذلك في منطقة تحت الربع بجوار باب زويلة (بوابة المتولي). فضلا عن أن كل منطقة يتواجد به شادر لبيع الفوانيس في إقليم القاهرة، في المكانين أنت على موعد مع أشكال الفوانيس مختلفة الحجم والشكل، مهرجان كامل من الفوانيس التي تجبرك على البهجة، وتغمرك بالسعادة. خاصة أن مع الفوانيس تباع مستلزمات الزينة التي تغزو شوارع القاهرة في تلك الأيام، وبالقرب من تحت الربع تقع منطقة الخيامية التي تبيع الأقمشة المميزة والمستخدمة في تزيين المقاهي والكافيهات والمطاعم وغيرها من الأماكن التي تزرع شوارع القاهرة ببهجة رمضان.
***
بعد الحضور الكلي والمبكر للفانوس، يتوالى ظهور معالم الاستعداد لاستقبال شهر رمضان طوال شهر شعبان. تبدأ العلامة الثانية في ظهور نصبة بائعي الكنافة والقطائف. فرغم أن هذه الحلويات يمكن أكلها طوال السنة، إلا أنها ارتبطت مع هذا الشهر تحديدًا. فإذا مرت الكنافة أو القطائف، تتداعى في الذاكرة محطات رمضانية، لذا ليس غريبا أن تشهد الأيام الأخيرة من شهر شعبان ظهور نصبة الكنافة. فيتم إنشاء الفرن بشكله الدائري ومن فوقه توضع الصينية الدوارة ويقف عليها الكنفاني أو صانع الكنافة، وسط انبهار الصغار وتلهف الكبار. وبجوار نصبة الكنافة يقف صانعو القطائف، وهذا المشهد الذي تجده في الكثير من شوارع القاهرة والجيزة من مكونات شهر رمضان الأساسية.
يرتبط بمشهد الاستعداد لاستقبال رمضان سعي بائعو المخلل لعرض منتجاتهم. فعلاقة المصريين بالمخلل غريبة، يعشقونه مع كل الوجبات، حاضر في كل المناسبات باعتباره فاتح شهية. يقولون إنه يساعد على هضم الأكل، يعبرون عن ذلك بمقولة مشهورة: “هات حاجة نبلع بها”، يقصدون في سياق معين المخلل تحديدًا. لذا يكون أحد الضيوف الكبار في رمضان، فهو المقبلات الرئيسية طوال أيام الشهر. أمر تستعد له الكثير من محلات بيع المخلل في المناطق الشعبية بتجهيز مخزون ضخم بتشكيلة مختلفة. المدهش أنهم يتفننون في صناعة المخلل من كل شيء تقريبًا، ففضلا عن الجزر والبصل والفلفل والليمون واللفت، هناك تقليعات تظهر مع شهر رمضان مثل مخلل المانجو!
***
إذا تركنا ما يخص البطون وانتقلنا إلى مشهد آخر من مشاهد الاستعداد لشهر الصوم، سنجد الزينة حاضرة بقوة، بداية من تزيين معظم المساجد بالإضاءات الحديثة، استعدادا لاستقبال المصلين للتراويح، وليس انتهاء بتزيين الشباب والمراهقين للشوارع بالزينة والإضاءات مختلفة الألوان. فالزينة ركن أساسي في استقبال الشهر، وهي عادة راسخة في الأحياء الشعبية بالقاهرة، ويتم جمع الأموال من ساكني البنايات في الشارع المراد تزيينه. تتحول الشوارع إلى لوحات فنية بسبب التنافس في ما بينها حول أكثر الشوارع إبهارا، وهي منافسة معروفة بين أبناء شوارع الحي الواحد خصوصا في الأحياء الشعبية، أما في الضواحي والكمبوندات، فتعليق الزينة يتم بشكل فردي على شرفات المنازل.
ومع اقتراب أول أيام شهر رمضان يمكن ملاحظة الازدحام الشديد الذي تشهده شوارع القاهرة بسبب سعي المواطنون للحصول على احتياجاتهم من السلع والبضائع. أما آخر مشهد في مسلسل الاستعداد لشهر رمضان، فهو مشهد ظهور عربية الفول على نواصي الشوارع، فهذه العربية السحرية المكونة من مكونات خشبية وأربع عجلات وتجويف يتسع لقدرة الفول، تظهر لتعلن أن الاستعدادات لشهر رمضان انتهت، فحضورها يعني أننا على بعد أول سحور في شهر رمضان، هي إشعار نهاية الاستعدادات والدخول في الشهر ذاته، فالاصطفاف أمام عربية الفول في ساعات الليل مشهد مصري بامتياز، فالفول ضيف رئيسي على مائدة السحور، بسبب قدرته على الإشباع يقولون إنه “بيسد” أي يملأ البطن ويجعلها أقدر على تحمل ساعات الصيام.
***
لشوارع القاهرة بهجة وريحة وطعم وشكل في الاستعداد لشهر رمضان، هناك تكثيف للعادات الاجتماعية التي حولت الشهر من حالة دينية إلى حالة اجتماعية دينية ذات حضور ثقيل الوقع على المدينة التي تضبط إيقاعها على الشهر الذي تتحول أيامه إلى كرنفال شعبي لا يتوقف يحتفي بالمناسبة الدينية الأكبر في امتداد الزمن. المشي في شوارع المدينة في الأسبوع الأخير من شهر شعبان متعة، مدينة تزينت لاستقبال حبيبها، هكذا يمكن التقاط بهجة المصريين المبثوثة في تفاصيل المكان، وبعض قدرتهم على الاستثمار الاجتماعي في الحدث الديني وتحويله إلى مناسبة عنوانها البهجة ومعانقة الحياة.
اقرأ أيضا:
«أرشيف بيكيا»: «مازوفشا».. فرقة شعبية بولندية لإحياء ليالي رمضان في «دمنهور»