طارق المري يكتب: الجليلة بنت القاضي

لكل منا نصيب من اسمه، وهي لها النصيب الأكبر. الأستاذة الدكتورة جليلة القاضي، أول مرة سمعت عنها كانت في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. ذكر زميل لي أنها توثق القرافات في القاهرة. وكنت وقتها في بداية حياتي وعملي مع التراث، ورأيت أنها من الرواد في هذا المجال بالذات، حيث إن القرافات في مصر كانت قضية مثارة على المستوى الإعلامي من حيث سكانها الأحياء الذين شاركوا الأموات في مكانهم لقلة فرص السكن في القاهرة. وظهر ذلك في العديد من الأفلام السينمائية في الثمانينات، لذا رأيت أنها تواكب المشكلة (هكذا ظننت وقتها). سواء كانت تواكبها أو لا، فهي منطقة من جذور القاهرة التاريخية لا تتجزأ عنها ولا تنفصل.
المهم مرت السنون سريعا، وقابلتها لأول مرة في عام 2011 في بيتها في وسط البلد بدعوة من العزيزة دكتورة أمنية عبد الباري، التي تربطها بالدكتورة جليلة صداقة عميقة. ودارت بيننا نحن الثلاثة مناقشات حول ما يحدث للتراث في القاهرة. وكانت وقتها القضية المثارة هي محطة مصر وما طرأ عليها من تطوير حديث أخل بأصلها التراثي.
وكانت بداية النضال المشترك نحو إنقاذ التراث المصري، وكان مشوارا طويلا حتى تفجر في عام 2021 بعمل محور الفردوس الذي دمر أجزاء من مقابر الغفير لتوسعة المحور على حساب الموتى. وبدأنا سويا مبادرة قومية لإنقاذ تراثنا الثمين، وانضم إلينا العديد من المعماريين والمصورين والمحبين للتراث. واستمر الجهد المبذول لمقاومة إزالة الجبانات الأربعة أعوام، وحتى الآن نسير في طريق لا نعرف نهايته.
***
ومن خلال كل ما سبق، رأيت فيها (الدكتورة جليلة) الثبات على المبدأ والجهد الدؤوب دون كلل أو ملل. ومهما كانت الانتكاسات والعوائق، كانت دائما مصممة على المضي في الطريق بلا هوادة. شخصية لا تقبل أنصاف الحلول، حادة كالسيف في الحق وما هي مؤمنة به. وليس عندها أي مانع من مواجهة أي جهة بجراءة وقوة طالما هي مؤمنة بما تسعى إليه. وهي لا تبخل بأي علم على أي أحد، تحترم التخصص وتحترم الآخر طالما لم يعتد على ما تؤمن به.
جريئة في الحق والدفاع عنه وكمن يعتلي منصة القضاء، تقطع بالفصل بين الحق الذي تراه والباطل الذي يخالفه. لا تيأس طالما هي مؤمنة بما تراه حقا، ولا تنسحب من المواجهة حتى لو كانت من تواجهه أقوى من الناحية النظرية. فهي ترى أن قوتها تستمدها من إيمانها ومعتقدها. كريمة مع الغير، لا تبخل بأي شيء يطلب منها سواء علما أو كان شيئا آخر. لا تظهر الضعف ولا الهزيمة، دائما لديها خطة بديلة للنصر لمبدأها. فهي مجرد سويعات قليلة وتعود تناضل من جديد.
القليل ممن قابلت في حياتي له مبدأ وله قضية يناضل من أجلها، والقليل جدا من وجدت أنه ثابت على قضيته مهما طال الأمد. هي بالفعل امرأة جليلة وهي بالفعل قاضي عادل.
اقرأ أيضا:
ملف| «جليلة القاضي».. 75 عاما في مواجهة القبح
جليلة القاضي: المتمردة الساخرة
أمنية عبدالبر تكتب: جليلة، أستاذتي وصديقتي
د.داليا الشرقاوي تكتب: علمتني الجرأة في التجوال