صور| “التذرية” مهنة تنقية الحبوب عند الفراعنة تواجه الاندثار
تصوير: أحمد دريم
مع انتهاء درّاس المحاصيل الزراعية المختلفة، تبدأ مرحلة “التذرية” وهي عملية يقوم بها الفلاح في أرضه الزراعية أو منزله من أجل فصل بقايا الحبوب من الشوائب العالقة بها، والتي غالبا ما تكون التبن والحصى والطين.
وقديما كان المصريون القدماء يحرصون على تنقية محاصليهم عن طريق “التذرية”، والتي تتم بشكل يدوي باستخدام غربال كبير، وهناك شخص مُخصص لآداء هذه العملية دون غيرها، ولم يختلف المسمى قديما عن الآن.
مراحل التذرية
عرّف الدكتور عبدالحليم نور الدين، أستاذ اللغة المصرية القديمة بكلية الآثار جامعة القاهرة ومستشار مكتبة الإسكندرية في بحث “الزراعة والري في مصر القديمة”، التذرية بأنها هي عملية تنقية القش والشوائب عن حبوب الغلال بعد دراستها، وتتم التذرية عن طريق رفع الحصيد عاليا بواسطة المذاري أو الجاروف أو ألواح خشبية بواسطة الأيدي.
وظهرت في مقبرة أمنمحات كاهن أمون من عصر الملك تحتمس الثالث، فيحمل الهواء الشوائب والقش بعيدًا بينما تسقط الحبوب الثقيلة إلى أسفل، ثم تغربل بعد ذلك بغرابيل خشبية مستجيرة أو مستطيلة الشكل وذلك حتى تستكمل نقاءها تمامًا.
كما استخدم المصري القديم بعض الأدوات لإتمام هذه العملية توفيرا للوقت والجهد المبذول وللحصول علي نتائج أفضل، ظل بعض من هذه الأدوات مستخدما بصورة مماثلة أو مع بعض الاختلافات حتي الآن في بعض قرى ونجوع مصر بطريقة أقرب ما تكون لتلك التي اتبعها المصري القديم.
النساء
ذكر البحث أيضا، أنه كان من يقوم بهذه العملية غالبا النساء دون الرجال في الدولة القديمة والوسطي، بينما قام بها الرجال في أغلب الأحيان في عصر الدولة الحديثة وذلك وفقا لما جاء من تصوير لهذه العملية في مناظر المقابر في كل من الفترات الثلاث، وكان يصورن غالبا بشعر قصير أو حليق مثل الرجال ويغطي الشعر بغطاء من الكتان.
ولكن في بعض الحالات ظهرت سيدات المذريات بشعر طويل محاط بعصابة الرأس التي تتدلي على الظهر، وكانت تجري التذرية بأن يمسك الفلاح لوحين كل لوح في يد ويضمهما ويأخذ من الحصيد المدروس في الكومة وبرفعه لأعلى، ثم يفصل اللوحين عن بعضهما فتسقط الحبوب والأعواد الثقيلة مرة أحرى، بينما تتطاير الأتربة والقش مع الرياح إذ تحمل الرياح كل ما خف في وزنه بعيد عن الكومة.
مكان التذرية ووقتها
تتم “تذرية” القمح والحبوب في اليوم الأول من الشهر الجديد لفصل الحصاد ولا تزال تجري هذه العملية إلى الآن في أواخر فصل الربيع تحديدا في شهري مايو ويونية، وكان العمال عادة ينتظرون هبوب الرياح للقيام بعملية التذرية، وكان المصريون يفضلون الوقت ما بين الظهر والمغرب من النهار وذلك لأن الرياح تنشط عادة في هذا الوقت بما يوفر أفضل الظروف اللازمة لإتمام العمل بكفاءة عالية، في حين كان يحبذ الوقت من قبل طلوع الشمس حتى الضحى أول وقت غروب الشمس أو الليالي القمرية للقيام بالحصاد.
أدوات التذرية
عرف المصري القديم هذه الأدوات منذ عصور ما قبل الأسرات تقريبا، وقد اقتصر بعض هذه الأدوات على عملية التذرية فقط مثل الغرابيل، بينما استخدم البعض الآخر المذراة أو الشوكة والمكانس.
المغربلات
هن نساء يعملن بمفردهن إلى جانب المذريات والكناسات اللاتي يشكلن فريقا وعادة ما كانت المغربلات يصورن بعدهن، وكانت المغربلة تصور في وضع أفقي تمسك فيه بإطار الغربال أو المنخل في كلتا يديه، وتصور الحبوب تتساقط عادة من الغربال علي الكومة بينما يتطاير القش والأتربة في الهواء بفعل الرياح، والقش والحصى المتبقي في الغربال يتم استبعاده بعد ذلك وكانت تتم غربلة الحبوب مرة واحدة أو مرتين إذا لزم الأمر لذلك.
ووفقًا لكبر أو صغر حجم العمل، فإنه كان يقوم عادة بعملية الذرية من 3 إلى 12 عاملا أو عاملة ففي مقبرة “خ عام حات” يقوم بعملية التذرية 12 فردا، ولذلك فإن “الغبرة” تكون كثيفة جدا والتي أظهرها الفنان في النقش كل العاملين والعاملات بالتذرية يضعون مناديل علي رؤوسهم لربطها والتي تحمي أيضا الرؤوس المحلوقة من أشعة الشمس.
المقرقراتي او المكربلاتي
مع مرور الزمن ودخول بعض المعدات الحديثة في عملية تنقية الغلال خلال الدراس، انحصرت العملية على تنقية ما تبقي من غلال من حصى وأتربة وظهرت عدة أسماء لمن قوم بتلك المهنة بقرى ونجوع أسيوط أطلق عليه “المقرقر” أو “المقرقراتي” أو “القراقري” أو “المكربلاتي”، وبرغم من قدم تلك المهنة، إلا أنها تواجه الاندثار بعدما أصبح العاملون فيها يعدوا على الأصابع.
ففي مركز الغنايم جنوبي محافظة أسيوط، التقينا عبدالعزيز عطيات، الشهير بـ”الذق” والبالغ من العمر 70 عاما ويعمل في هذه المهنة منذ أن كان شابًا، حيث يستطيع بصبره وبمنتهى الحرفية والإتقان عزل حبات القمح من الحصى والطين الصغيرة عن طريق هزها يمينًا ويسارًا بالغرابيل المختلفة حتي يعزلها بعيدًا عن حبات القمح.
ويوضح عطيات، أن هذه المهنة من المهن التراثية القديمة المتعلقة بمحاصيل الغلال، حيث يلجأ له المزارعون عقب الانتهاء من دراس المحصول لكي ينظف بقايا حبات القمح التي تتجمع في نهاية الدراس بالطين والحصى، مشيرا إلى أن المهنة تحتاج إلى صبر كبير لأنه من خلال فتحات الغربال يستطيع استخراج الطين والحصى الرفيع عن طريق الهز والوقوق أمام تيار الهواء، حتى يستطيع عزل حبات القمح عن الطين والحصى الذي يأتي نتيجة الطمي الذي يتجمع في جذوع أعواد القمح.
المراجع
- الزراعة والري في مصر القديمة، بحث للدكتور عبدالحليم نور الدين، مكتبة الاسكندرية، إعداد الباحث مهاب درويش.
19 تعليقات