«صلاح أبوسيف» في أوراق قديمة منسية: الفن ضد النازية

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» استكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية، ليكتبوا بعضا من ذكرياتهم القديمة المنسية أو ورقة من سيرتهم الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب نموذجا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات لتصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق «صلاح أبوسيف».
إنها ورقة فريدة في درج مكتبي. يرجع تاريخ هذه الورقة إلى عام 1938، حيث التقيت مع مجموعة من السينمائيين الذين كانوا يعملون معي في استديو مصر. كنا نحاول في كل لقاء نجتمع فيه سويا أن نثبت وجودنا بين الأجانب. كنا ننادي بأن السينما رسالة، لكننا كنا نتهم بأن أفكارنا نظرية محضة، وأن السينما عمل وطن وليست مبادئ نظرية تقرأ في الكتب.
لقد كان استديو مصر في تلك الفترة يضم مجموعة من المصريين الذين درسوا فن السينما في ألمانيا، ومجموعة أخرى حضرت خصيصا من ألمانيا للإشراف على العمل داخل الاستديو. كان يشرف على قسم الإخراج مخرج ألماني، بينما كان التصوير يديره أيضا مصور ألماني، أما المكياج فتولاه خبير روسي من أصل ألماني.
***
وفي تلك الفترة، كانت النازية تسيطر سيطرة كاملة على ألمانيا، وانقسم الاستديو إلى جبهتين: الجبهة الأولى كانت جبهة ألمانية فاشستية تضم الأجانب، وقد ثبت أن معظمهم أرسل إلينا كجواسيس. حاولوا مرارا الضغط علينا وشدنا إلى تيارهم، وكانوا يحاولون أيضا إخضاع السينما لتحقيق أغراضهم. أما الجبهة الثانية فكانت تضم عددا من الشباب المتحرر، وكان على رأسهم المرحوم كمال سليم، وهذه المجموعة يرجع الفضل لها في وضع البذور الأولى للسينما المصرية.
زادت الخلافات بين الجبهتين، وكثيرا ما كانت تتغلب الجبهة النازية لدرجة أنهم استطاعوا أن يلقوا بكمال سليم خارج الاستديو نظرا لأفكاره ومبادئه التي تتعارض مع مبادئهم. وفي هذه الظروف، كنا نحاول كموظفين في الاستديو أن نعمل بأي طريقة ممكنة بعيدا عن القيود والعراقيل التي كانت توضع في طريقنا. فقد اجتمعت اللجنة المشرفة على استديو مصر برئاسة الأستاذ فؤاد سلطان عضو مجلس إدارة بنك مصر، وأحمد بدرخان، لكي نبحث عن قصة مصرية.
***
وفي تلك الفترة كان الاستديو بلا عمل، فقلت إن كمال سليم عنده فكرة تصلح لفيلم سينمائي اسمها “الحارة”. نادينا على كمال وحكى لنا القصة، فحازت إعجاب فؤاد سلطان الذي طلب تغيير اسمها من “الحارة” إلى “العزيمة”. وهكذا بدأ العمل في فيلم “العزيمة”، وحاولت الجبهة النازية أكثر من مرة التدخل لإيقاف أعمالنا، ولكن دون جدوى. وبرغم هذه العقبات التي صادفتنا، سمحوا لنا بأن نعمل هذا الفيلم، فطلبنا منهم المعاونة في العمل فرفضوا. وكان كل واحد منا يعمل وهو مؤمن بالفكرة ويعتبر نفسه صاحبها، لذلك تكاتف الجميع لإنجاح هذا العمل بداية من العمال حتى الكمبارس.
بدأ الفنيون النازيون في العمل ضدنا بوجه سافر، ومحاربتنا بكافة الأوجه. وهنا شعرنا بالخطر الذي يهددنا، وأردنا أن ندافع عن أنفسنا كدفاع منا عن الفيلم المصري، فالتأم شملنا في اجتماع خطير وقررنا قرارا خطيرا.
فقد قررنا قتل المخرج الألماني “فيرتيز كرامب” الذي كان يتزعم الحركة التي تحاربنا. اشترينا مسدسا، وقررنا في اجتماعنا هذا أن نختار واحدا من بيننا لقتله. وقع الاختيار عليّ لأقوم بهذه المهمة، وكنا جميعا نفكر بعقلية الإنسان الوطني المجند لخدمة قضية وطنية. وأخيرا وافقت لأنني كنت أريد أن أحطم كل تدخل أجنبي. وكنا في انتظار قرار اللجنة المكونة من بنك مصر، التي انعقدت خصيصا لتدريس ميزانية هذا الفيلم، بعد أن أشاع المخرج الألماني أننا أنفقنا كثيرا على الفيلم بدون داع.
***
وبالفعل أصدرت اللجنة قرارها بتقييم هذا العمل الفني، واعتبرت أن هذا العمل الذي نقوم به عملا جيدا، وأن الميزانية التي صرفت على الفيلم لا تزيد عما يصرف على أي فيلم في ذلك الوقت. وفي نفس اليوم كنا نقوم بتصوير أحد مشاهد فيلم “العزيمة”، وكان “مشهد الولد”. وكانت المفاجأة الكبرى إذ اشتعلت النار بمعمل التحميض والطبع والمونتاج، ومن بين ما أتت عليه النار فصلان كاملان من هذا الفيلم. وانكشفت المؤامرة المدبرة ضدنا، وقرر بنك مصر طرد المخرج الألماني “فيرتيز كرامب”، فأضعت عليّ فرصة قتله. وأعيد تصوير الفصلين وخرج فيلم “العزيمة” إلى الوجود، وبدأت إشراقة النصر والأمل ترتسم على وجوهنا.
وعندما أخرج من درج مكتبي الإعلان الصغير عن فيلم العزيمة، أتذكر ماذا كان سيحدث لي لو أنني قد قتلت فعلا هذا الرجل النازي!
22 أكتوبر 1964