«شنطة سفر» السوق الأخضر في بلجراد (3-3)
أثناء تسلق جبل وغابة أفالا، كانت المشاهد البانورامية تتراءى لي، وكل منظر أكثر روعة مما قبله. ينبوع مياه، ملاعب مفتوحة على أرض منبسطة، فنادق صغيرة (موتيل) مجرد عدة حجرات في مبنى بالخشب أو بالحجر وشرفات كبيرة كبيرة على الغابة المتدرجة. إلى أن وصلنا إلى منطقة معسكر التسلق، واسترحنا قليلا في الشمس. ثم استكملنا المسيرة حتى وصلنا لبرج أفالا، وهو برج “سياحي” بارتفاع 137مترا أقيم مكان برج التليفزيون الذي دمره حلف الناتو سنة 1999. وحين أعادوا بنائه للسياحة، أنشئوا بجانب قاعدته مجمع رياضي يضم مطعم ومعرض ومتجر للهدايا التذكارية وملاعب رياضية وصالة ألعاب رياضية في الهواء الطل.
المنظر البانورامي من البرج لما تحتنا من غابة وقلعة، أوحى لي أن روحي ترفرف فوق الجنة، لتختار مكان مستقرها الأخير. أما الناحية الأخرى، فصفوف متراصة لمباني متوسطة القدم وبينها شجر باسق وفراغات بينية، تليها صفوف من الأبراج تحت الإنشاء! ومن ضمن ما يمارس في أعلى جبل أفالا هو ركوب الدراجات والجري الجبلي والتزلج شتاء. تحت البرج مجموعة من المقاهي التي تختبئ مقاعدها وسط الشجر، وتنتشر مناضدها حسب مستوى منسوب الأرض، وتطل على الغابة. تناولنا أحد الأطباق الصربية (رز أبيض وفاصوليا بيضا بالصلصة وسجق) واستكملنا المسيرة.
***
هذا اليوم كان مختلفا جدا بالنسبة لي، بالرغم من أنه قد سبق لي وتسلقت جبال الأرز في لبنان، وسبق لي ومشيت وسط غابات في عدة مدن أوروبية وإفريقية، لكن الهواء اللطيف مع الشمس الذهبية مع أشجار الفاكهة، مع روائح الزهور، مع مجموعات الطيور النادرة من حولي، مع الأشعة التي تتخلل الممرات الضيقة بين الأشجار كل عدة أمتار، مع هاتين السيدتين من سني أو أكبر بسنوات قليلة، فارعات الطول وبأجساد رياضية رشيقة وصحة جيدة بسبب الهواء النقي وبسبب نجاحهما في التحكم بإيقاع يومهن، مع الأحاديث اللطيفة التي دارت بيننا في همس- اليوم بكل المقاييس كان غير.
نظافة الهواء كانت غريبة على رئتي الملوثة، كنت أشعر وكأن أحدهم قد وضع (ماسك أوكسيجين) على أنفي، أو بأنني نصف مخدرة، اللون الأخضر “الزرعي” كيفما نصفه. أخضر بس. مع مباني متناثرة كل بضعة مئات الأمتار آيات في البساطة والشياكة. عرفت أن كل مبنى منهم دول وراءه حكاية، وأن معظمهم تم ترميمه، وما هدم منهم أو حرق تمت إعادة بنائه في نفس الموقع وعلى نفس الهيئة وصار ضمن المحمية. أحد المعسكرات أصبح نصب ثقافي مستقل. يوم جديد وجو جميل يستدعي الاستمتاع به في مكان مختلف: زيمون، قرية نهر الدانوب التي احتلت مكان في وجداني منذ أن زرتها مرتان ليلا عام 2015 والتي كانت بلدة منفصلة انضمت إلى بلجراد وقت تطورها العمراني عام 1934.
***
قابلتنا سلتفانا صديقة ميريانا ومتخصصة التراث، وبدأنا بالسوق الأخضر. سوق كبير مفتوح كل ما يباع فيه عضوي. من نباتات الزينة إلى شتلات زراعية إلى الخضر والفاكهة والصناعات الغذائية المرتبطة. في هذا السوق رأيت أكبر ثمرات من جميع الخضروات والفاكهة، وكأني فتحت صفحات من كتاب جينس، وبينما أنا مندهشة من الأحجام التي أراها، استرجعت روائح أخذتني إلى سنوات السبعينيات، حينما كانت أمي تعود من السوق وتبدأ في غسيل الخضر، فتفوح رائحتها في البيت ونتسابق بأكلها نية.
اشتريت عدة ثمرات ومنها ثمرة قتة وثمرة طماطم يتعدى وزن كل منهما ثلاثة أرباع كيلو. وقمت بتصوير هذه الأعاجيب وسط ذهول صديقتاي. ترجلنا في “ممشى ومنتزه أهل زيمون” المفتوح على نهر الدانوب بأشجاره ومقاعده وتماثيله ونوافيره الصالحة للشرب، وحولنا الحمام، وفي النهر مجموعات البط والبجع، وفي الجهة المقابلة من النهر غابات من الأشجار تتناثر بينها مبان صغيرة كل حين ومين.
وبمنتهى “الروقان” أخذتني صديقتاي إلى “القهوة بتاعتهم”، والتي يأتون إليها على الأقل مرة في الأسبوع “عشان يأخدوا قعدتهم”. وأهدتني سلتفانا كتابا عن توثيق المباني التراثية في زيمون، بالصور والاسكتشات وحكايات المنشأ والطرز. ومثل سابقه، الكتاب بالصربي والإنجليزي. وبالرغم من أن سلتفانا لا تتكلم الإنجليزية بطلاقة، إلا أن الحديث عن معوقات وتحديات الحفاظ على التراث كان هو السائد.
***
الصراع بين قيمة التراث وطوفان التطوير الاستثماري في بلجراد على أشده! بعدها، تسلقنا ميريانا وأنا جبل زيمون إلى الكنيسة وما حولها… ثم ذهبنا إلى مطعم له تراس بانورامي يكشف الجبل الأخضر من تحتنا، والبحيرة وعدة مراكب و “بطبطة” البط والجهة المقابلة بأشجارها اللامتناهية مع خلفية من السماء الزرقاء الصافية. منظر لا يبرح مخيلتي. وكان ضمن برنامجي التسكع في منطقة سكادارليا (أو الحي البوهيمي) على غرار مونمارتر في باريس، والتي تقع في ستاري جراد (المدينة القديمة) والتي حافظت نسبيا على ملامح عمرانها القديم ومبانيها. وقد عاش فيها الشعراء والكتاب الفقراء من صربيا ومن مناطق يوغوسلافيا والبلقان. كانت المنازل في الشارع صغيرة، بجدرانها مغطاة بالطين وأسقفها مغطاة بالبلاط المسطح (تشيراميدا).
وكانت المنازل تحتوي على ساحات صغيرة بها حدائق وصنابير مياه وأسوار خشبية (طربة). فقط المنازل العرضية بها شرفة. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، تم هدم عدد أقل من المنازل وتم بناء المباني الجديدة بدلاً من ذلك. وكان الشارع نفسه مرصوفًا بالحصى الخشن والكوبالت. وتقول الأسطورة إن فكرة تحويل الشارع إلى ما هو عليه اليوم جاءت في عام 1957 خلال مسابقة شرب البيرة بين الشاعر ليبيرو ماركوني [الأب] والكاتب والفنان زوكو دومهور في “تريسيسيرا”. والمنطقة بأكملها محمية بموجب القانون باعتبارها وحدة مكانية ثقافية وتاريخية منذ عام 1967 وفقًا للتصميمات التي قدمتها مجموعة من الفنانين البارزين. لقد تمكنوا من الحفاظ على قيمه الحالية وإدخال المرافق الحديثة دون التدخل في معالمه التاريخية.
***
المنطقة حالياً هي ثاني أكثر مناطق الجذب السياحي في بلجراد بعد كاليمجدان، وتساهم في ثلث دخل المدينة من العملات الأجنبية. سكادارسكا – القصبة الرئيسية شارع قصير ومنحني وغير مستوى وأرضيته من الكوبالت. فيه المطاعم والفنادق المعروفة والمعارض الفنية ومحلات التحف والتذكارات وفي نهايته نافورة نصف دائرية حجرية مزخرفة سيبيلج (سبيل). وكثير من واجهات المباني في المنطقة مرسومة وملونة يدويا. كل مبنى مختلف عما يجاوره، لكنهم متوحدون باللوحات التشكيلية الكبيرة على واجهاتهم، كل كافيتيريا ومطعم جديرين بالفرجة والاستمتاع.
وتقام بالمنطقة من سلسلة من الاحتفالات والمهرجانات على مدار العام: عيد القديس نيكولاس الصيفي، مهرجان سكادارليا، مهرجان الزهور، مهرجان القبعة، مهرجان تامبوريكا، مسابقات ملكات الجمال، مهرجان طبخ الأطفال، معارض تذوق النبيذ، وأمسيات الرسم والشعر، والعروض المسرحية، وسباق الحلزون لاختيار أبطأ راكب دراجة، وعروض الرقص على الرقصات القديمة، وغيرها. وفي نهاية الشارع، عبر شارع دوسانوفا، يوجد سوق مفتوح للمزارعين، يسمى رسميًا سوق سكادارليا. وفي سكادارليا، تعرفت على أحد العاملين بإحدى الكافيتريات واسمه آدم، والذي رشح لي أحد الأطباق الصربية التقليدية من الباذنجان والكوسة. وما زلنا نتواصل ونتبادل التهاني في الأعياد والمناسبات حتى اليوم.
***
من ضمن مجموعة صديقاتي الصربيات مارتا الأستاذة في جامعة نيكولا تسله، والتي تعرفت عليها من خلال برنامج عمل العمارة والأطفال بالاتحاد الدولي للمعماريين. اتصلت بها لنتقابل ولكي أعرفها على ميريانا. وبالطبع كان مكان اللقاء هو ميدان الجمهورية عند الحصان، لكن بدلا من أن نقصد “القهوة بتاعتنا” ذهبنا لشرب قهوة تركي في قهوة اسمها “قهوة”، وأكلنا أحلى آيس كريم توت في محل الآيس كريم الأشهر هناك بلاك شيب (الخروف الأسود) وأهدتني مارتا كتاب عن قصص وحكايات من شوارع بلجراد.
وليلة السفر، وبعد أن ودعنا بعض ميريانا وأنا، أمضيت بعض الوقت في ميدان الجمهورية وكانوا يبنون فيه مسرح منذ الصباح. بدأ العرض الساعة 8م، واتضح أنه يوم رياضة الملاكمة العالمي، عروض حية وأنوار وشاشات تعرض فيديوهات لناس من مختلف الأعمار والأجناس استجابوا لهاشتاج تحدي ممارسات الملاكمة في كل مكان. وبينما أنا واقفة أشاهد العرض، تقدم مني رجل شيك بنظارة، وعرض عليا يعزمني على قهوة، شكرته ورحت ركبت الترام الدائري الذي يدور بالمدينة كلها، في وداع للمدينة الخضراء ذات الكونتورات طالع نازل. الرحلة كانت ثرية جدا وممتلئة بالتفاصيل.
***
أستطيع اليوم التأكيد على أنني تعلقت ببلجراد وأهلها. تعلقت بالحدائق الموجودة في كل مكان. والنوافير والتماثيل والكلاب والأطفال والترام. تعلقت بمكتب البريد الذي حجزت منه ميعاد المسحة الطبية، تعلقت بالطريق إلى المستشفى الحكومي والصعود والهبوط وعبور الحدائق ومشاهدة مناطق لعب الأطفال المفتوحة والحمام والناس فوق المقاعد الخشبية يجلسون بلا هدف واضح إلا الاستمتاع بمدينتهم. تعلقت بالاستديو والحديقة ومبنى الجامعة. أصبحت لي أماكن وطقوس في بلجراد.
تعلمت حاجات كثيرة من ميريانا، ومن أهمها ألا أتعجل أبدا، على أي شيء، بداية من قهوة الصباح. فكانت كل يوم الصبح تتصل بي لتوقظني، وتقول لي “افطري بس ما تشربيش قهوة، عشان لما حنتقابل حنروح نشرب قهوة مع بعض في الحتة الفلانية”. وأنا استغرب، لسة حنتقابل، وبعدين حنمشي مش أقل من نص ساعة أو حنركب ترام أو أتوبيس، عشان نروح حتة نشرب قهوة؟! وكانت دائما تؤكد لي أن الموضوع مستاهل. وإني “لازم أخد وقتي” وأتمهل في القيام بكل شيء خاصة إذا كانت “حاجة بحبها” مثل القهوة، فاحتسائها مزاج، وبالفعل تستحق الانتظار.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: القهوة تستحق الانتظار (1-3)
«شنطة سفر»: ممشى أهل صربيا (2-3)