«توسيط القرافة الصغرى».. تدمير طبقات تاريخية عمرها 900 عام

تواصل الجهات الحكومية في مصر إزالة المقابر في مختلف أنحاء جبانات القاهرة، غير عابئة بكل ما يطرح من المهتمين والمعنيين حول سبل حماية تراث مصري يمتد في عمق التاريخ لمئات السنين. فكل الحديث عن أهمية الجبانات لم يلق أي آذان صاغية من المسؤولين، بل جاءت التصريحات الرسمية لتهدئة الرأي العام إلى حين، ثم تعود آلة التدمير إلى عملها من جديد، لحذف صفحة من كتاب التاريخ الحي في الجبانات.

وهو أمر يتضح من خلال خرائط جوجل، التي تكشف لنا عن حجم الجريمة المرتكبة في حق ترب الشافعي (القرافة الصغرى)، التي تواجه خطر الإبادة عبر آلية نطلق عليها هنا: “توسيط القرافة الصغرى”.

والتوسيط عقوبة مملوكية شهيرة، تقوم على شطر المغضوب عليه من المنتصف إلى شطرين باستخدام السيف. وهي عقوبة عنيفة لجاء إليها سلاطين المماليك لإنزال العقاب النهائي بمن ينال غضبهم، ففي هذه العقوبة إتلاف للنفس البشرية بشطر الإنسان إلى جزئين. وبعيدا عن سياق العقوبات المملوكية، سأقوم باستخدام نفس المصطلح لكن في السياق العمراني، لوصف ما جرى على القرافة الصغرى في الفترة الأخيرة، بسبب العدوان الحكومي المستمر على مقابرها.

فقد أدى هذا “التوسيط العمراني” إلى تقسيم القرافة الصغرى إلى شرائح، عبر شق طرق بشكل عرضي فصل بين أجزاء القرافة التي كانت متجانسة عمرانيًا، إلا أن آلية التوسيط أدت إلى تفكيك التجانس واستبداله بشرائح منفصلة عن بعضها، وينهي خصوصية المكان التاريخية ويضعف من مقاومتها للتعديات التي تقودها الحكومة وأجهزتها حاليًا ومستقبلًا.

***

ويبدو أن آلية “التوسيط” هي المفضلة لدى الحكومة، التي تشق الجبانة الرئيسية للقاهرة بالعرض، لتفكيكها على مراحل، بهدف إضعاف قدرتها على مقاومة التعديات المتتالية، وتركها شرائح منفصلة تواجه المصير النهائي بالفناء. وبدأ هذا النهج بوضوح مع إنشاء “محور الحضارات المروري”، الذي فصل بين أجزاء القرافة إلى الأبد، وقسمها إلى نصفين شمالي ضريح الإمام الليث بن سعد. إذ يمتد هذا المحور من متحف الحضارة، ثم يقتحم القرافة في مسار ينتهي عند جبل المقطم.

والجميع يتذكر الضجة التي جرت حول هدم مقابر هذه المنطقة، خصوصا في ترب التونسي العام 2022، خصوصًا ما تعلق بمقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، وخدعت الحكومة وقتها الرأي العام بالإبقاء على مقبرة العميد في مكانها، لكنها في المقابل أزالت جميع المقابر من حوله. وهو “التوسيط الأول” للقرافة، في حين نشهد حاليًا “التوسيط الثاني”، للقرافة وكل ذلك خلال أربع سنوات فقط.

ما يجري الآن في قلب القرافة الصغرى هو عملية “توسيط” لترب الشافعي، بتحويلها إلى منطقتين يفصلهما طريق، عبر خلق محور مروري على جثة مئات المقابر تم هدمهما على مدار أشهر من الإصرار الحكومي الدؤوب على إزالة المقابر في المسافة من طريق صلاح سالم ثم جنوبًا، بالتوازي مع كوبري الأباجية، ثم ينحرف طريق الإزالة بعد إيوان المنوفي في جهة الجنوب الغربي، وهي المساحة التي تم إزالة جميع مقابرها بالكامل، وتم تجهيزها لتكون جزءا من الطريق الجديد، المقرر عمله كبديل لطريق صلاح سالم القديم، ليتكون ما يشبه الهلال طرفه من الشمال ثم يتجه جنوبًا بغرب، وكأنه سيف غاشم ضرب القرافة في وسطها ففصلها إلى جزئين لا علاقة بينهما.

***

ينتقل الهدم بعد ذلك عبر شارع الخلاء، لينطلق غربا صوب مدخل شارع ابن الفارض وما يقع شماله من مقابر. ومن المتوقع إزالة جميع المقابر في مدخل الشارع، بل سيطال الهدم -لا محالة- المقابر الواقعة بين شارعي ابن الفارض والطحاوية. وتظهر المعاينة الميدانية، مع خرائط جوجل، أن عشرات الأحواش تمت إزالتها بالفعل خلال الأشهر الماضية، لكي تصل عمليات الهدم إلى شارع القادرية (الإمام الشافعي)، ثم تواصل الاتجاه غربا لتلتحم بالمسار الجهاز الذي ظهر بعد إزالة عشرات المقابر وصولا إلى عين الحياة، ثم يلتحم المسار الجديد مع صلاح سالم شمالي حدائق الفسطاط.

وهو المشروع الذي أعلنت عنه الحكومة ممثلة في محافظة القاهرة بشكل عابر، تحت مسمى “طريق صلاح سالم الجديد”، وذلك خلال الإعلان في يناير الماضي عن غلق كلي لشارع القادرية بالوصلة من شارع الطحاوية وحتى شارع سالم إبراهيم جنوبًا.

***

محافظ القاهرة قال في تصريحات لـ”اليوم السابع” في 22 مارس الماضي، إنه سيتم إزالة كوبري السيدة عائشة خلال ثلاثة أشهر، مع تغيير اتجاه محور صلاح سالم للاتجاهين يمر خارج ميدان السيدة عائشة، عبر تحويل مسار المحور ليمر خلف مسجد مسيح باشا، ويدخل في مسار جديد وسط المقابر، وينتهي عند محور الحضارات، ثم يعبره بكوبري ليتصل مرة أخرى بمحور صلاح سالم عند نادي الأبطال.

ولفت المحافظ إلى أن هناك انحناء في مسار كوبري السيدة عائشة المقرر إزالته بسبب أنه بني في ثمانينيات القرن العشرين، “وكانت فكرة إزالة العقارات لإنشاء الكوبري بشكل مستقيم غير موجودة”، وهو تفسير عقيم إذ أن من بني الكوبري لم تغب عليه إزالة المباني التي تتعارض مع مساره، بل أنه احترم الخصوصية التي يمر بها الكوبري كونها منطقة تاريخية ذات طابع تراثي نادر، وهو ما لم تحترمه الحكومة الحالية التي رفعت شعار الهدم والإزالة لكل ما يعترض طريقها بغض النظر عن القيمة التاريخية والتراثية النادرة.

***

خلال العدوان الحكومي الممتد على المنطقة التي تشكل “توسيط” القرافة الصغرى، أي المنطقة التي تم بترها من جسد القرافة، ارتكبت عشرات الجرائم في حق التاريخ المصري وتراثه. إذ أزيلت أحواش تاريخية لعشرات الشخصيات المهمة من حجم محمود سامي البارودي، وأحمد المنكلي باشا، وحوش يكن، وقبة كلزارقادين، وقبة عبد الحليم باشا (التي أثار هدمها موجة غضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لبعض الوقت).

وبعض هذه التحف المصرية تم إزالتها من الوجود في مارس الماضي، رغم أن بعضها تجاوز عمره الـ150 عامًا، فضلا عن أن المقابر كلها ككتلة واحدة تشكل التراث الحي لمدينة القاهرة، والذي يفترض أن لا يتم المساس به، فمباني تعدت المئة عام ذهبت وكأنها لم تكن، لم تشفع لها قوانين أثرية أو تراثية، ولم يدفع عنها ما تحتويه من زخارف وفنون نادرة الوجود، فمنطق الهدم حاكم، وتوسيط القرافة عقاب نافذ.

يجب التذكير هنا بأن العبث الحكومي الجاري بمنطقة ترب الإمام الشافعي، يتعلق بمنطقة تاريخية تحوي على العديد من الآثار النادرة، فوق الأرض وفي باطنها. فهي منطقة دفن بشكل منتظم على مدار ألف عام، فالمنطقة تستخدم في الدفن منذ بعد دخول العرب مصر بفترة. لكن دفن السيدة نفيسة والإمام الشافعي ووجود مقابر آل عبد الحكم كلها شواهد على أن هذه المنطقة كانت مستخدمة للدفن منذ القرن التاسع الميلادي على أقل تقدير، كجزء شمالي من القرافة وهي المنطقة المخصصة للدفن شرقي مدينة الفسطاط (العاصمة الإسلامية الأولى لمصر).

***

لكن هذه المنطقة ازدهرت بشكل أساسي في العصر الأيوبي (567- 648هـ/ 1171- 1250م)، بداية من عهد صلاح الدين لكن بشكل أساسي مع الكامل محمد، وعرفت منذ ذلك العصر باسم القرافة الصغرى، ولم ينقطع فيها عمليات الدفن حتى قرارات الحكومة في السنوات الأخيرة بوقف الدفن، لأول مرة منذ ألف عام

الجريمة المرتكبة في حق التاريخ المصري بشكل يفوق ما جرى في المائتي عام الماضية، لا مبرر له إلا الرغبة المجنونة في تسليع كل شيء، في زمن لم تعد هناك قيمة لأي شيء. فالجميع مستباح ولا لافتة “تراثية” أو سنوات عمر تقدر بالمئات للمكان ستحميه من المصير الأسود الذي يتهدد الجميع؛ الحذف والهدم والاندثار بفعل فاعل.

***

ما يجري من استباحة لجبانات القاهرة التاريخية يجري بهدف تسييل القيمة العقارية لموقع الأرض الذي يبدو أن الاهتمام بها لا يتوقف عند إقامة مجموعة من الطرق التي تختصر زمن الرحلة لبضع دقائق، بل أن الأمر يتعدى ذلك ليجعل المرء يشك بعمق بأن الهدف البعيد هو إزالة الجبانات تماما وترك بعض المواقع المسجلة أثر، واستخدام بقية المنطقة بعد إزالة ما عليها في مشروعات إسكان فاخرة وإقامة سلسلة من المقاهي والمطاعم والمجمعات الاستهلاكية.

هذه، كما هو واضح، أولوية الحكومة الوحيدة، ولا يبدو أنها تريد أن تسمع أي صوت يقول لها إن هناك أولويات واعتبارات أخرى أهم. لذا، على ما يبدو أن “التوسيط” كعقوبة لكل محبي تاريخ القاهرة وتراثها مستمرة.

اقرأ أيضا:

ما وراء أسوار «الكومباوند»: تفكيك ظاهرة على أطراف القاهرة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.