رفاييل كورماك في «منتصف ليل القاهرة»: تقارير البوليس السري عن شفيقة القبطية (3-3)
في أوائل القرن العشرين، نشر كاتب أغانٍ مصري كتابًا قصيرًا يمجد فيه ملذات هذه الملاهي الليلية. في هذا الكتاب، أعاد الكاتب نشر صورٍ لسبعة راقصات شهيرات في تلك الفترة إلى جانب كلمات الأغاني التي كانت تُغنى أثناء رقصهن. كانت معظم كلمات تلك الأغاني خفيفة وغالبًا مرحة، تتحدث عن الليالي المتأخرة في المدينة وعلاقات الحب والغرام (أحيانًا عن كلٍّ منهما – هناك أغنية تصف حفل زفاف أقيم في صالة رقص). تسجل العديد من الألحان الأجواء الصاخبة للملاهي الليلية نفسها، من بينها لحن ما كان يعطي نداء هزليًا للفرقة بأكملها، ويتخلل كل سطر صيحات “الله، الله”:
العواد عليا جاد وسقاني كاس الخمره
الله الله
القانونجي أصله خمورجي ساكن في حارة الكفره
الله الله
…
الطبال راكبله حمار وراح يسرمح في الوسعه.
***
كانت الراقصة والمغنية شفيقة القبطية ملكة التياترات هذه في تسعينات القرن التاسع عشر بلا شك؛ إذ كانت تدير صالتها الخاصة، واشتهرت بإغواء الطبقة العليا من مصر، وكسبت ما يكفي من المال لشراء عدة بيوت خاصة بها. في أوائل القرن العشرين، خلّدتها المطربة بهية المحلاوية بتسجيل تقليد ساخر بعنوان “رقص شفيقة”. حقق التسجيل الذي أضحى الآن عنصرًا غامضًا بالنسبة لهواة جمع التسجيلات نجاحًا كبيرًا عند صدوره؛ إذ أُنتج ما لا يقل عن ثلاثة إصدارات أو نسخ مختلفة منه، لكل إصدار منه كلمات مختلفة قليلا وجانبه الآخر الخاص به، من بينها نسخة تحمل عنوانًا موحيًا هو “يالله يا حبيبي نسكر”.
تسخر المغنية بلطف من شفيقة لمدة ثلاث دقائق، وتصورها كسكرانة في حالة من الدلال والغنج والغزل. دائمًا ما تبدأ النُّسَخ المسجلة المختلفة من هذه الأغنية بنفس المشهد: تتحدث شفيقة مع أحد الزبائن في ملهاها الليلي، وبينما كانت ثملة بشكل ملحوظ، طلبت منه أن يشتري لها مشروبًا آخر قبل أن تصعد على المسرح. طلبت بيرة في أحد الإصدارات، وفي إصدار آخر طلبت شمبانيا وحشيش. لسوء الحظ وقبل أن يتمكن النادل من إحضار الطلب، تُدْفَع على خشبة المسرح وتُجْبَر على بدء رقصة عشوائية مصحوبة بالعزف بالمزمار والعود والتصفيق باليدين. نتيجة إحساسها بآثار التدخين والشرب، تقاطع غنائها ورقصها بضحكات متكررة واعتذارات من نوع “أنا سكرانة لا مؤاخذة” أو “مقدرش” دارت حياة شفيقة التي غلفتها الأساطير في خط موازٍ لأسطورة مريم سماط، لكن في عالم أكثر قساوة حيث كانت الحفلات تستمر حتى الصباح الباكر، وجَنَت الفنانات الكثير من أموالهن عن طريق إقناع الزبائن بشراء المشروبات باهظة الثمن.
***
حكاية شفيقة، على وجه الخصوص، قصة غريبة، حيث حظيت بمكانة المشاهير الحديثة بعد وفاتها بوقت ما. وبفضل تراكم سلسلة من الخرافات بشكل مطرد والتي بلغت ذروتها في فيلم شفيقة القبطية الصادر في 1963، أصبح اسمها الآن مرادفًا للانحطاط الساحر للحياة الليلية في القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر. حوَّل هذا الفيلم، قبل كل شيء، شفيقة إلى شيء أسطوري، مما جعلها نقطة جذب لحكايات عن الموهبة الهائلة المصحوبة باللمعان الشخصي الشديد، مما جعل مهمة التمييز بين الحقيقة والخيال في حياتها مهمة شبه مستحيلة. جانبها الخاص من حكايتها لم يعد موجودًا.
وُلدت، كما يقال عادة، في 1851 لعائلة مسيحية في القاهرة. كانت انطلاقتها الكبيرة في 1871، بحسب مقال نشرته الصحف المصرية في منتصف القرن العشرين، عندما جاءت راقصة تُدعى شوق لترقص في حفل زفاف كانت شفيقة تحضره بالحي. كانت شوق ترقص للنساء اللاتي اجتمعن معًا في مكان مختلف عن مكان الرجال – كما كانت العادة في حفلات الزفاف في ذلك الوقت – وبدأ الجميع يرقصن. استعرضت شفيقة حركاتها الخاصة، وأعجبت شوق بالموهبة الطبيعية للفتاة لدرجة أنها عرضت تدريبها لتصبح راقصة محترفة. سمعت والدة شفيقة القلقة، والتي كانت شديدة التدين، هذا الاقتراح ومنعت على الفور أي حديث عن الرقص. لم تستطع الأسرة قبول دخولها في هذه المهنة المخزية.
***
لن تُثْنى عزيمة شفيقة بهذه السهولة؛ فبدأت سرًا دروس الرقص مع شوق أيام الأحد، وكانت تخبر والديها أنها ذاهبة للصلاة في كنيسة الحي. يومًا ما، وبعدما أظهرت تقدمًا في دروسها، قررت أنها تريد العمل كراقصة بدوام كامل. كانت تعرف أن القيام بذلك يعني الهروب من البيت. هربت إلى ساحل المتوسط وبدأت في الرقص في الموالد هناك. وبعد فترة التدريب القصيرة هذه في الريف، عادت للانضمام إلى فرقة شوق في القاهرة، حيث رقصتا معًا في حفلات الزفاف والحفلات الخاصة. كان والداها المذهولان لا يزالان يحاولان إعادتها إلى البيت، وأرسلا قسًا ليتحدث معها؛ والذي توسل إلى شفيقة لكي تعود وتتخلى عن هذه الحياة الفاسقة، لكنها رفضت. ظلت ترقص مع شوق لمدة ستة أشهر فقط عندما ماتت معلمتها وقدوتها. اضطرت شفيقة الآن إلى العمل بمفردها، فتوجهت إلى صالات الرقص في الأزبكية حيث أصبحت نجمة.
***
تدور أيضًا قصة مختلفة تمامًا حول صولاتها وجولاتها الأولى في عالم الرقص. يقال إنها كانت متزوجة من مفتش تذاكر بالسكك الحديدية المصرية. كان الرجل سكيرا كسولا يقضى الكثير من الوقت في شرب الخمر في البيت مع أصدقائه. وعندما رأى أن شفيقة يمكنها أن ترقص، جعلها ترقص لأصدقائه أولا، ثم أجبرها في النهاية على العمل في كباريهات القاهرة لكسب المال ودعم أسلوب حياته المدمر.
قد تكون الحقيقة شيئًا مختلفًا تمامًا. لو كانت بدايات حياة شفيقة لا تزال غامضة بعض الشيء، فقد بدأت حكايات أكثر تفصيلاً عنها تتكاثر بمجرد وصولها إلى صالات الرقص المتجمعة حول حدائق الازبكية. كانلشفيقة التي كانت معروفة بمهاراتها وتصميم رقصاتها المبتكر الفضل في اختراع رقصتين مختلفتين. تتضمن الأولى وهي “رقصة الشمعدان” الرقص بشمعدان كبير موضوع على رأسها. بينما تطلبت الرقصة الثانية منها أن تُوازِن عدة أكواب من الشراب على بطنها، بينما تستلقي إلى الوراء مما يجعل الأكواب ترتطم ببعضها. في بعض الروايات، جمعت شفيقة بين هاتين الرقصتين في أداء واحد يتحدى الجاذبية، حيث كان على الراقصة أن تُوازِن الشمعدان على رأسها والأكواب على بطنها في الوقت نفسه.
اجتذب استعراضها النخبة المصرية من ملاك الأراضي الأثرياء والسياسيين الذين أمطروها بالمال والهدايا. تضم كثير من الحكايات عن شفيقة استخدامات مختلفة ومبتكرة للشمبانيا؛ كان بعض معجبيها الأثرياء يغسلون قدميها بالمشروب. وقيل إن أحد الرجال كان مفتونًا بها لدرجة أنه سقى الشمبانيا لخيولها. تُظْهِر صور الملاهي الليلية في ذلك الوقت طاولات مكدسة عن آخرها بالزجاجات.
***
كانت شهرتها في الإنفاق الباذخ معروفة كأسلوب حياتها الزاهي. كانت ترتدي ملابس مغزولة بالذهب، وترتدي أحذية ذات نعل ذهبي ومرصعة بالألماس وتعيش في فيلا كبيرة جنوب الأزبكية، لاتبعدكثيرًا عن قصر عابدين الملكي. وفي الوقت الذي كان فيه النبلاء والأرستقراطيين فقط من يتجولون بعرباتهم الخاصة، كان لديها عربتان صُنِعَتا خصيصًا لها – عربة بيضاء تجرها الخيول البيضاء بالنهار، وأخرى سوداء تجرها الخيول السوداء طوال الليل. كما وظفت شفيقة طاقمًا من الإيطاليين وألبستهم أرقى البدلات لتخالف مرة أخرى وبوضوح الطبقة العليا المصرية التي اعتمدت بشكل كبير على العمالة المنزلية السودانية والنوبية. تُذكر شفيقة أيضًا بسخائها الشديد بالمال، خاصة تجاه سكان القاهرة الأكثر فقرًا؛ فحينما لم يكن الناس قادرين على دفع أجر رقصها في حفلات زفافهم، كانت تقوم بذلك مجانًا، وتمنحهم ما يكفي من المال لقضاء شهر عسل فاخر.
نما لدى الكاتب المصري جليل البنداري هاجسٌ صغير بشفيقة في الستينيات من القرن الماضي، ليس فقط من خلال كتابة سيناريو فيلم عنها في 1963، بل أيضًا مسرحية ورواية عن حياتها. رسخت روايته للأحداث صورة معينة لشفيقة في الوعي المصري؛ إذ شَابَ الكثير من الحكايات عنها مسحةٌ من المبالغة الشعرية. كانت حكايات الشمبانيا والأناقة والإفراط مجازًا مألوفًا في جميع أنحاء العالم ويمكن أن تنطبق على أي فنانة تقريبًا، لكن يبدو أيضًا أن بعض الحكايات انجرفت إلى عوالم المجاز. يسهلعلينا أن نتخيل أن حذاءها الأسطوري ذو النعل الذهبي، مثلاً، كان يمثل الثروة الهائلة التي كانت تلقى تحت قدميها.
بغض النظر عن أية نسخة أسطورية من حياة شفيقة سمعتها، هناك دائما نهاية مأساوية؛ إذ تضاءلت شعبيتها في أوائل القرن العشرين، وفي السنوات الأخيرة قبل وفاتها (في وقت ما بين عاميّ 1926 و1935)، عاشت مفلسة وحيدة. حسب كلمات أحد نصوص النعي، “في غرفة حقيرة في درب البرقي أحد الدروب الملتوية في شارع كلوت بك ماتت فقيرة بائسة… ولم يشيع جنازتها أحد ممن نعموا برقصها وأدركوا سر فنها وسحرها”.
***
لكن هناك طريقة أخرى لرواية حكاية شفيقة القبطية، ملكة صالات الرقص. يمكن العثور عليها، إذا تمعنت بجدية كافية، في مصادر معاصرة عن حياتها، قبل أن تولد هذه الأسطورة القوية. في حكايات لاحقة صُوِّرَت على أنها امرأة فريدة من نوعها، نجمة ارتفعت عاليًا فوق كل الأخريات. لكن الأخبار السابقة تظهرها كمُشارِكة في عالم أكبر من الراقصات والمغنيات، وليس فقط كامرأة بمفردها. لا تزال هذه الحكاية تتمتع بالعديد من الميزات نفسها – الرقص والليالي الساهرة والترف – لكنها تظهرها من خلال ضوء مختلف.
عثرت على آثار حياة شفيقة وأصدائها في أماكن غير متوقعة. عندما تصفحت كتالوج دار الكتب والوثائق المصرية، وجدت بعض تسجيلات اسطوانات فونوغراف (ذات الـ78 لفة) سجلتها شركة جراموفون في أوائل القرن العشرين بعد ذروة حياتها المهنية. لم تُضَف هذه التسجيلات إلى النظام الرقمي، لذلك لا يمكن الاستماع إليها. لكن عناوين الأغاني الموحية مثل “الصبر”، “مفيش كده أبدًا” و”برهوم بيخايلني” – تعطي فكرة عن محتواها. كما غنت عن الحب أو فقدانه المحزن كمعظم مغنيات الكباريهات في ذلك الوقت.
يظهر اسم شفيقة أيضًا في نوع مختلف من السجلات، وهي سجلات الشرطة السرية. تبرز هي وملهاها الليلي بشكل بارز في مجموعة من التقارير السرية أرسلتها شبكة من المخبرين إلى عباس حلمي الثاني، الخديو في تسعينيات القرن التاسع عشر. حتى في ذلك التاريخ المبكر، كانت السلطات قلقة من صور العربدة الليلية بالأزبكية. ولما كان الناس يشربون ويسكرون حتى الساعات الأولى من الصباح، كان هناك شعور بأن على الخديو أن يعرف التفاصيل. ومن ثمَّ، أعد ضابط شرطة متصيد للأخطاء يُدعى محمد سعيد الشيمي فريقًا للتحقيق. جمع الشيمي وفريقه من المخبرين منذ 1894 فصاعدًا عدة سنوات من التقارير للخديو.
***
تقدم هذه البيانات وصفًا حيًا لليالي الإفراط في الشرب والرقص والحفلات – وصفًا يشبه بصورة لافتة تجربة الباشا الذي عاد للحياة في وصف محمد المويلحي الخيالي للحياة الليلية بالأزبكية. كانت مجموعات من الرجال تتنقل بين البارات يسكرون ويبدؤون المعارك حول مغنياتهم وراقصاتهم المفضلات. استشاط مخبر الشرطة غضبًا من كثير مما رآه. كان، مثل المويلحي، قلقًا بصفة خاصة بشأن فساد الطبقة العليا المصرية. تم الاحتفاظ بقائمة من المصريين المنتمين للنخبة – وخاصة موظفي الحكومة والجيش – الذين كانوا يرتادون صالات الرقص والبارات وأوكار لعب القمار.
تظْهِر التقارير عالمًا لا تُطَبَّق فيه قواعد المجتمع المعتادة – أحيانًا بطريقة مثيرة للاهتمام للغاية. من الأمور التي أزعجت محمد الشيمي بشدة الاختلاط الحر بين الأديان الذي يحدث في هذه البارات. ذكر في أحد التقارير أنه رأى رجالا مسلمين متعلمين تعليمًا عاليًا يشربون مع الأجانب واليهود والمسيحيين. أخبر الخديو أنه في هذه الأماكن، “ترى المسلم يشرب الخمرة في صحة النصراني، كأن القرآن الشريف لم يصرح لهم بتعاطي الخمور مثلما صرح الدين المسيحي بذلك”. منح نظام الحكم العثماني الأقليات الدينية الكثير من الحرية والأمان والسلطة. ولكن، في نظر التقليديين، تطلب الأمر أيضًا من هذه الجماعات أن تنغلق على نفسها إلى حد كبير وأن تنشغل باهتماماتها المجتمعية الخاصة. كانت الأزبكية، بتماهي الحواجز القديمة فيها بين الأديان والطوائف، علامة على ما هو آت. كان هذا ملْهِمًا بالنسبة للبعض، لكن بالنسبة للآخرين كمحمد سعيد الشيمي، كان هذا مثيرًا لكثير من القلق.
***
كانت شفيقة القبطية نفسها هدفًا متكررًا لهذه المراقبة لأنها كانت تدير إحدى أشهر صالات الرقص في الأزبكية في ذلك الوقت. ما يبعث على الرضا والسرور أن أخبار كبار المعجبين بها مؤكدة في هذه التقارير المرتبكة التي أرسلت إلى القصر. شملت قوائم الشيمي لمن يعتقد أنه غير مرغوب في ذهابهم إلى كباريه شفيقة العديد من ضباط الجيش وأفراد الطبقة العليا من أصحاب الألقاب النبيلة مثل باشا أو بك. ورد في 1894 أن أحد هؤلاء الزبائن المتميزين. وهو أحمد نشأت باشا، كان يقضي عددًا كبيرًا من لياليه وأمسياته في صالة شفيقة للرقص مع مجموعة من الأشخاص وصِفوا بأنهم “بحالة مخالفة للآداب من سكْر وعربدة”. شغل نشأت باشا سابقًا عددًا من المناصب الحكومية منها منصبًا مرموقًا كمدير للدائرة السنية. مما وضعه في موقع المسؤولية عن أملاك الخديو من الأراضي الشاسعة. ولم يشغل نشأت أية مناصب مهمة بعد تسعينيات القرن التاسع عشر – ربما يرجع ذلك جزئيًا إلى ولعه بالحياة الليلية في القاهرة.
تظهر هذه التقارير السرية جانبًا آخر لشفيقة؛ وهو إنها لم تكن فقط مجرد راقصة كاريزمية بل كانت أيضًا مديرة ماهرة، استغلت السلطات لصالحها. في تسعينيات القرن التاسع عشر، وإلى جانب إدارتها لتياترو، أقامت علاقة غرامية بإليس مانسفيلد Ellis Mansfield، المساعد البريطاني لقائد شرطة القاهرة. كان صديقًا ذا نفوذ لديها رقيَّ فيما بعد لمنصب القائد نفسه. قيل أن مانسفيلد كان مفتونًا بشفيقة، لدرجة أنها أقنعته بوضع عدد خاص من رجاله تحت تصرفها، حيث كانوا يعملون كقوة شرطة صغيرة خاصة. رآها المخبرون المحليون كثيرًا وهي تمشي إلى قسم شرطة الأزبكية وتقضي طوال اليوم هناك. لابد أنه من المفيد لصاحبة صالة رقص قد تكون مشبوهة أن تدخل وتخرج من قسم الشرطة المحلي كما لو كانت تملكه.
***
لم يكن مانسفيلد جهة الاتصال الوحيدة لدى شفيقة داخل الشرطة. كان محمد أباظة مفتش الشرطة بالمنطقة زبونًا منتظمًا لصالتها كذلك، واستفادت جيدًا من هذه العلاقة أيضًا. تشير تقارير الشرطة السرية إلى أنه اعتاد التجول في صالات الرقص الأخرى (كان تياترو “ألف ليلة وليلة” الشهير هدفه تحديدًا) ليلقي القبض على الراقصات بسبب مخالفات بسيطة. ومن ثمَّ تقليل المنافسة أمام شفيقة. كانت قوة شرطة الأزبكية التي عجت بالفساد على جميع المستويات جاهزة لاستغلال الآخرين لصالحها. تسبب بعض الضباط الصغار في فضيحة في 1895 عن طريق إدارة ما يشبه بيوت الدعارة الخاصة بهم. حيث أقاموا حفلات وقدموا عاهرات للضيوف.
في 1900، ظهر اسم شفيقة في مكان آخر غير متوقع – ليس في مصر هذه المرة ولكن في فرنسا. في تياتر إيجبسيان Théâtre Égyptien في معرض باريس العالمي لعام 1900، قدمت مجموعة من الراقصات رقصاتهن: “كانت بطونهن تتدحرج وتهتز وتتحرك مع بقاء أجسادهن ثابتة، مثلما تتحرك العيون في وجه ثابت؛ كانت بطونهن تدور كما تدور حيوانات في قفص. كان من بين الراقصات امرأة تدعى شفيقة. كانت للراقصة “الدؤوبة”، حسب وصف أحد المراقبين، “نظرة عميقة” والتواءاتها “تصيبك بالدوار”.
وصفت أخبار العرض نفس الرقصات التي اشتهرت بها شفيقة في مصر. وطبعت إحدى الصحف صورة لامرأة ترقص بالشمعدان فوق رأسها، تمامًا كما يقال إن شفيقة كانت تفعل. كما أظهرت مطبوعات أخرى صورًا لراقصات يدخنَّ الشيشة متوازنة فوق رؤوسهن. وأظهر تقرير آخر صورًا لرقصة الأكواب المتأرجحة التي يصعب تخيلها. بينما ظهرت صورة لراقصة اسمها سمحة مستلقية على ظهرها، وهي ترفع بطنها عن الأرض موازنة بين أربعة أو خمسة أكواب. “جعل إيقاع بطنها الأكواب ترتجف في جلجلة متناغمة” وفقًا لأحد المراقبين.
***
في الحكايات اللاحقة عن حياة شفيقة، اكتسبت الرحلة إلى باريس أهمية ضخمة كونها اللحظة التي أصبح فيها رقصها عالميًا. لكن الحكاية، وإن كانت مبنية على بعض الحقيقة، يحتمل أن تكون اكتسبت بعض المبالغة مع كل رواية. إذا كانت حقًا هي الراقصة المسماة شفيقة (هذا محتمل، لكنه يظل مجرد افتراض). فقد كانت هناك كواحدة ضمن مجموعة أكبر من الراقصات ولم يكن دورها مركزيًا أو مؤثرًا كما قد يدعي البعض. لكن الآن، أضحت شفيقة تمثل جميع جيل راقصات القاهرة. ومن خلال حكايتها، باتت الملاهي الليلية في تسعينيات القرن التاسع عشر تنبض بالحياة.
***
ازدهر شكل آخر من أشكال الحياة الليلية في الأزبكية إلى جانب البارات والمسارح والتياترات هو بيوت الدعارة. بشكل عام، كان أفراد الإدارة الاستعمارية البريطانية كلما وصلوا إلى أي مكان يسعون لفرض نظامهم الخاص. وعندما احتلوا مصر في 1882، كانت تجارة الجنس أحد أهدافهم الإصلاحية. اعتمدت طريقة التعامل مع البغاء في مصر قبل ثمانينات القرن التاسع عشر بوجه عام على التنظيم وليس الحظر. لكن البريطانيين نظموه قانونيًا بشكل أكثر صرامة، تمامًا كما فعلوا في الهند في وقت سابق من القرن التاسع عشر.
تحول شارعان في الأزبكية، وهما شارع كلوت بك ووش البركة، إلى منطقة الضوء الأحمر (أو حي الدعارة) المصرح بها رسميًا. كانت هذه محاولة جزئيًا لضمان الصحة الجنسية للقوات العسكرية والإدارية البريطانية في البلاد. كان من المفترض من النساء اللاتي كن يعملن في بيوت الدعارة الحصول على تصريح والخضوع لفحوصات طبية منتظمة. – حتى لو كان وجود مزيج من الثغرات الرسمية والتهرب غير الرسمي والمواخير غير المشروعة تعني أن هذا لم يكن الحال دائمًا.
بالنسبة لأولئك الذين كانوا قلقين فعلا بشأن التراخي الأخلاقي بالأزبكية، لابد أن بيوت الدعارة هذه أكدت أسوأ مخاوفهم. كانت بيوت الدعارة بالنسبة للأشخاص (خاصة النساء) الذين عملوا في مجال الترفيه وصمة عار على سمعتهم (أو سمعتهن). تتذكر مواضع قليلة من مذكرات مريم سماط، بشيء من الانزعاج المتزايد. الشائعات والادعاءات التي حيكت ضد الفرق الدرامية في مصر في أيامها الأولى. وتروى مريم غير مصدقة أنه رغم أنها كانت تقدم مسرحيات جادة. فقد “اتهمها بعضهم بأنها فوق ذلك دار خلاعة ومجانة ودعارة”.
ردت مريم للدفاع عن شرف زميلاتها الفنانات جزئيًا بإلقاء اللوم على النساء اللواتي جئن لمشاهدة المسرحيات مدينةً طريقة لبسهن. قالت لقرائها، “لم يكن الذنب إذ ذاك ذنب دار التمثيل ولا القائمين بالعمل فيها. وإنما كانت التبعة في ذلك على إفراط الأوانس في تبرجهن ومغالاتهن في سفورهن وزينتهن. مما كان يلقي الشك والريبة في خلد الصالحين. من الأدباء ويوقع البشر والسرور في أفئدة ذوي القلوب المريضة من عشاق الغزل وفساق النظر”. وتستطرد في إصرار لقرائها أن المسرح رغم ذلك مكانٌ للترفيه الخالص والفن وتحسين الأخلاق ولا ينبغي الخلط بينه وبين ما يحدث في منطقة الضوء الأحمر.
***
في غضون عقود قليلة فقط – من ستينات القرن التاسع عشر إلى تسعينات القرن التاسع عشر – تحولت الأزبكية تحولا كاملا. ومع افتتاح محطة الترام هناك في 1896، يمكن للمنطقة الادعاء أنها كانت مركز القاهرة الحديثة. لكن في الليل، كان هناك خليط معقد من أماكن الترفيه المختلفة، وبدأ سلم العار الهرمي في الظهور. تربع المسرح المحترم على قمة الهرم، تليه التياترات الأكثر فجورًا، ثم استقرت بيوت الدعارة في الدرجة السفلية. بذل هؤلاء الأعلى في نظام الترتيب هذا جهودًا متواصلة لفصل أنفسهم عمن هم بالأسفل. أصر الممثلون والممثلات أنهم ليسوا مغنيات أو راقصات كباريهات؛ وأصرت مغنيات الكباريهات والراقصات أنهن لسن عاهرات. لكن الحواجز بين الثلاثة كانت أكثر مرونة مما أراد الكثيرون الاعتراف به؛ ففي نهاية الأمر، كان ترفيه شخص ما فجور شخص آخر. استغلت الفرق المسرحية المغنيات والراقصات لإغراء الجماهير. وفي صالات الرقص، ربما كانت هناك ضغوط من الزبائن الأثرياء الذين كانوا يتوقعون أن الراقصات ستقابل كرمهم بخدمات جنسية.
لكن الجهود المبذولة للتأكيد على احترام المنطقة لاقت آذانًا صماء. وبحلول تسعينات القرن التاسع عشر، باتت الأزبكية معروفة بنسائها المشبوهات سيئات السمعة قدر شهرتها بدار الأوبرا أو المسارح. وأصبحت مرادفًا لصخب السكارى والعربدة وتسكع الشباب. أعرب ابن دانيال ذات مرة عن أسفه لمغادرة الشيطان للقاهرة في القرن الثالث عشر. ولكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر، نرى أن الشيطان قد عاد مجددًا إلى المدينة.
—
الجزء الثالث من الفصل الأولي من كتاب «منتصف الليل في القاهرة: نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة» الذي يصدر قريبا عن دار الكتب خان بترجمة : علاء الدين محمود. يحكي الكتاب حكاية منسية عن المسرح والغناء والرقص تُظهر الشرق الأوسط الحديث من زاوية مختلفة – زاوية لا تهيمن عليها الحروب أو “المثقفون” أو“الرجال العظماء” أو السياسة العليا. بل ليالٍ متأخرة في الكباريهات وموسيقى صاخبة ونساء يطالبن بالتغيير.
اقرأ أيضا:
رفاييل كورماك: منتصف الليل في القاهرة.. نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة (1-3)
رفاييل كورماك في «منتصف ليل القاهرة»: حكايات المدينة الصاخبة في بدايات القرن (2-3)