رائحة البارود وراء الستار

عندما صمتت المدافع على خطوط النار، جرت على الساحة الاجتماعية معارك أخرى ملأت الدنيا وشغلت الناس وعركتها، وشملت حقول الثقافة بأسرها. وتمترست في ميادين الفن والأدب وكشفت عن نزعات متضاربة شهدت قتالا آخر طال كافة مواقع المجتمع. وأسفرت عن انتصار الجبهات المضادة آنذاك ضد جبهة احتشدت لمقاومة تيار الإسفاف والابتذال الذي نال من قوى طليعية حملت راية الأمل في التغيير والتحول في كافة المجالات.

***

أبلغ تلك الأحداث الخطاب الذي أرسله الكاتب قاسم مسعد عليوه من الجبهة في أكتوبر 1973، حيث يورد: “أكتب الآن من مكان محاط بالقنابل الموقوتة، بعضها انفجر وبعضها لا يزال كما هو، جنديان بالخارج يقومان بتفجيرها، ولا يوجد بالمكان الذي أكتب منه نافذه واحدة سليمة أو باب سليم.. ليتكم كنتم معنا ونحن نرى تهاوي طائرة تهم كالفراشات، توهج اللهب في أجنحتها، ذيولها المتطايرة.. الانفجارات التي تملأ السماء.. أكتب عن الفزع الصهيوني.. الصور كثيرة وكثيرة ومظاهر الجهاد عظيمة والقتال شديد..”. ويرفق رسالته بقصة قصيرة “الجزء الناقص”، كما يرسل الشاعر عبدالصبور منير قصيدة “ما تيسر من سورة العبور”. تلك بعض من ومضات أضاءت السبل المعتمة، وخطوات تكمل المسيرة النابضة.

غير أن أشباحا أخرى كانت تختبئ في الظلام، تجهزت للانقضاض على هذا الوهج وإجهاض كل نماء وازدهار ناهض. تمثل ذلك جليا في حقل الأدب والفن، تحديدا العروض المسرحية التي عرضت آنذاك. فعقب بدايات المعركة، أغلق مسرح القطاع الخاص أبوابه، وكانت تلك مأثرة لمسرح الدولة لاجتذاب الجماهير للأعمال الجادة، ولكن هذا لم يحدث.

***

بعد مضي عام على ملحمة أكتوبر، قدمت المؤسسة الرسمية عروضا احتفالية اتسمت بالسطحية والهشاشة، مثل “الحرب والسلام” ليوسف السباعي و”محاكمة عم أحمد الفلاح” لرشاد رشدي. وتأتي في تلك الحقبة مسرحية “راس العش” لسعد الدين وهبة، والتي تعد من أكثر الأعمال بناءً وعمقا وطموحا في أن تقول شيئا محددا. وعلى حد سرد سعد الدين وهبة، “إن ما حدث في حرب أكتوبر قد غير الناس جميعا، فكشفوا الأقنعة عن وجوه الانتهازيين والسماسرة والوسطاء، وانقضوا على قاهريهم ومستغليهم، وانتزعوا منهم حقوقهم، وبادروا بأنفسهم إلى حل مشكلاتهم التي كانوا يتصورون من قبل أنها تتجاوز إمكانياتهم الذاتية.. فهل هذا كله صحيح؟ هل دانت ثمار النصر فقطفناها ونعمنا بها! أخطر شيء ومعركة لا زالت في أولها أن نحقق الانتصار في الوهم أو على المسرح، وأن نستنيم اللى ما حققناه فنقع في الوهم من جديد”.

آنئذ، استجاب مسرح آخر لاحتياجات جمهور الشرائح الاجتماعية العليا، ونماذج طفيلية جديدة، وحشد هائل من المشاهدين العرب من أنصار السياحة والترف السفيه. وقطاع عريض يلهث وراء دغدغة الحواس والإيحاءات الجنسية، ولا يعبر عن جمهور المسرح الهادف والجاد. حيث بادر إلى تقديم عروض “الهنك والرنك” مثل “شاهد ما شافش حاجة” و”وياما كان نفسي” لشويكار وفؤاد المهندس، و”حب ورشوة ودلع” و”اللعب على المكشوف” إلخ.

***

ومن زاوية أخرى، أفرزت حرب أكتوبر وجوها عديدة ناصعة ومضيئة في فضاء المسرح المحَّمل بقيم راقية ورفيعة. من تلك النماذج “مسرحية برج المدابغ” التي تمزج السياق التاريخي بالسياق الاجتماعي والإنساني. تناولت مسرحية “برج المدابغ” لنعمان عاشور التحولات والمتغيرات التي طرأت على المجتمع المصري إبان السبعينيات.

فقد شهدت تلك الحقبة صعودا لطبقة طفيلية جديدة ولدت واقعا جديدا لم يشهده المجتمع من قبل، تمثل في ظاهره الانفتاح الاقتصادي الذي طرح قيما ومفاهيم لم نعتدها، وأنتجت ملامح أخرى للبناء الاجتماعي. أبرز سماته ومظاهره سيادة الثروة والنفوذ السياسي والاقتصادي، دون أن تعبأ بمصادر تلك الثروة وهذا النفوذ. وسادت تعبيرات الملكية والسلطة، واتسع السوق لكل شيء، دون أي معايير، بالجملة، دون قانون.

لقد ناقش نعمان عاشور دوما أطروحات وهموم الطبقة الوسطى في أعماله “الناس اللي فوق” و”الناس اللي تحت” و”عيلة الدوغري”، التي أسماها النقاد “الناس اللي في الوسط”. فعالجت تلك الأعمال التطور الاجتماعي ومسيرة المجتمع المصري عبر التاريخ المعاصر، رائياً المستقبل درامياً، متناولاً “العائلة” كبنية نوعية في درامياته.

***

يسرد نعمان عاشور في مذكراته “المسرح حياتي”: “وجدت لنفسي، عوضا عما كنت أسميه التحرك السياسي والفكري، الإغراق الفني في قراءة البيئة وأغوارها، ومؤداه دراسة حياة الناس وشخصياتهم، تتمة لما كنت أقرأ من قصص وروايات ومسرحيات أراها بشخوصها ماثلة في كل عطفة أو حارة أو زقاق أطرقه من عطفات وأزقة الجيزة والسيدة وعابدين والمدبح (برج المدابغ)، ثم الغورية والدرب الأحمر”.

لذا، فهو يصور تكون طبقة جديدة طفحت في المجتمع المصري، مضادة لطموحات وأماني شرائح اجتماعية أخرى آمنت بصناعة غدٍ جديد نحو بناء وتطوير الإنسان وآماله في حياة تجسد أحلامه في الحرية والعدل والكرامة.

ترتيبا على ذلك، فإن نزوح عائلة “ماضي أبو سلامة” من حي المذبح إلى حي الدقي في برج المدابغ، و”البوتيك” الكائن في صدارة البرج، يعبر عن أخلاقية أخرى تحمل كثيرا من الوجاهة الاجتماعية. لا ينبغي أن الصعود الاجتماعي نشأ بشكل غير طبيعي، نموه مبتسر، وأن الهبوط في مكان آخر أكثر تمدينا لا يحمل معاني التحول والتغير الجذري أو الانفصال عن بيئة التكوين الحقيقي. ولا يعني أن رائحة البارود قد تلازمت مع أريج بوتيك المدابغ.

اقرأ أيضا:

هكذا تحدث إلياس خوري

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر