د.عباس الزعفراني: القاهرة لم تتحلل بعد وعلينا إعادة تخطيط المدن الجديدة (1-2)
تفتح وعيه على القاهرة خلال المرحلة الثانوية، إذ بدأ وقتها استيعاب المدينة والتعرف عليها بشكل كامل. نشأ الدكتور عباس الزعفراني في حي مدينة نصر عام 1966، الذي كان في ذلك الوقت «بلا ناس» تقريبًا، لكن سرعان ما تبدلت المدينة وأصبحت «لا تخلو من الناس». يقول: «حين انتقلنا إلى القاهرة في بداية الأمر وجدنا صعوبة بالغة في شراء طلبات البيت. كنا نضطر للذهاب لمنطقة العباسية لشراء متطلباتنا، أذكر -مثلًا- أنني كنت في الرابعة من عمري أعبر طريق النصر بمفردي، نظرا لندرة مرور السيارات داخل المنطقة».
بعد سنوات قليلة، قرر الانتقال إلى المنطقة الثامنة بمدينة نصر تجنبًا للزحام الذي وصل للمدينة. يقول: «أعدنا اكتشاف الحياة في هذه الفترة. المدينة تبدلَّت تمامًا، وأصبحت محاطة بالصخب من كل اتجاه. لم ننتقل إلى التجمع الخامس كما فعل أغلب جيراننا، لأننا أدركنا أن تجربتنا مع مدينة نصر ستعاد داخل التجمع الخامس».
يرى الزعفراني- عميد كلية التخطيط الإقليمي والعمراني بجامعة القاهرة الأسبق – أن المدن بشكل عام لها دورة حياة طبيعية تبدأ من الطفولة إلى الشباب ثم الشيخوخة. يقول «هذه الأمور استوعبتها وأدركتها منذ فترة مبكرة من حياتي، فالمدينة كائن حي كامل يتغير دائمًا بمرور الوقت، والعمران هو قصة حياة مدينة، ويرتبط أيضًا بقصة حياة البشر».
في هذا الحوار الممتد -على مدار حلقتين- مع الدكتور عباس الزعفراني، أستاذ التصميم البيئي، نسلط الضوء على رؤيته حول التغيرات العمرانية في القاهرة، وحلول التعامل مع القاهرة التاريخية، خاصة بعد مشاركته في اللجنة التي كلف رئيس الوزراء وزير التعليم العالي بتشكيلها في عام 2023 لتقديم الاقتراحات حول منطقة المقابر، قبل انسحابه.
-
كمخطط عمراني.. هل تعتقد أن المدن تتحلل بمرور الزمن؟
المدن يُقاس عمرها عادة بالعقود والقرون، والمدن الجديدة هي جزء من مدينة القاهرة. وهذه المدينة الضخمة تُنتج ضواحي جديدة من وقت لآخر، وهي سمة تظهر عليها منذ إنشائها، وهو ما نلاحظه من خلال التراكم التاريخي الذي حلّ بالمدينة منذ إنشاء الفسطاط، ثم العسكر، ثم القطائع، ثم القاهرة الفاطمية، وهكذا. إلى أن جاء الخديوي إسماعيل وقرر الانتقال للقاهرة الخديوية، ثم عبد الناصر الذي وضع حجر الأساس لمدينة نصر لتصبح عاصمة لمصر. وقد نجحت الفكرة حيث انتقل الناس للعيش فيها، لكن عبد الناصر لم ينجح في تحويلها عاصمة لمصر.
وقد ظهرت التجمعات العمرانية الحالية داخل القاهرة، مثل الشروق والعبور والقاهرة الجديدة والسادس من أكتوبر والشيخ زايد وغيرها من مدن، وصولًا إلى العاصمة الإدارية الجديدة. وأرى أن المدن تمر بالعديد من “قفزات التطور العمراني”، وهي التي كانت تحدث في الماضي مرة كل مائة أو مائتي عام، لكن حاليًا أصبحنا نسير بشكل أسرع. لذلك لا أعتبر أن المدن تتحلل بمرور الزمن، بل تتوسع بشكل أكبر، وهذا يمنحها عمرًا أطول.
-
كثيرون يتحدثون أن الحلول العمرانية أصبحت شبه معدومة في التعامل مع المشاكل السكانية والعمرانية داخل مدينة القاهرة.. هل تتفق مع وجهة النظر هذه، وما هي الحلول؟
لأكون صادقًا، أرى أن الحلول الفورية معدومة، لكن الحلول بعيدة المدى ليست صعبة. هنا يجب الالتفات إلى أن مشاكل المدن والعمران لا يتم حلها بشكل فوري، بل تحتاج إلى عقود من الزمن. الاستعجال في الحلول هو ما يقودنا لتكرار الكوارث. وأظن أنه يجب الآن الاستعداد لتخطيط المدن التي نشأت بفعل العشوائية وإعادة تخطيطها، فهي لها عمر قد يستمر لنحو 50 أو 100 عام. المهم هنا هو إعادة تخطيط البنايات القديمة، فتح الشوارع، وزيادة نسبة المساحات الخضراء. هذه الحلول ستقلل الضغط عن المدينة تدريجيًا وتساهم في حل مشكلة العمران، بشرط عدم تكرار التجارب السابقة.
-
كيف ظهرت المشكلة.. البعض يُلقي باللوم على الدولة.. هل تتفق؟
المشكلة ذات أبعاد معقدة. وكما قلت، يجب وقف إنتاج العشوائية بشكل كامل، وتقليل الطلب عليها. العشوائيات ظهرت في الأصل عندما توقفت الدولة عن إنتاج إسكان محدود الدخل منذ سنة 1960 وحتى عام بداية القرن الحالي. النظام القديم السائد كان يعتمد على إنتاج إسكان بدون تدخل حكومي، لكن منذ الخمسينيات بدأت الحكومة في تثبيت نسب الإيجارات، ومنعت أي محاولة لطرد الساكن من المنازل المؤجرة، وهنا توقف الناس عن الاستثمار في العقارات. وبدأت الحكومة تبني فكرة الإسكان الشعبي. لكنه توقف بحلول عام 1967 بعد أن تم تركيز المجهودات على استعادة سيناء.
لكن في المقابل ارتكبت الحكومة خطأ عندما قررت تثبيت نسبة الإيجارات، وقد رفض الناس استكمال أية أعمال خاصة بالتشييد، نظرًا لعدم جدواه. ونتيجة لهذا الوضع الصعب لجأ الناس إلى فكرة التمليك، ومع ارتفاع أسعاره، نشأت ظاهرة البناء العشوائي في الأراضي الزراعية وغيرها. الحكومة تغاضت عن هذه الممارسات، لأنها لم تجد حلًا للمشكلة. وقد نجحت العشوائيات لدرجة أنها أصبحت نشاطا اقتصاديا متكاملا. كما أن قانون الإيجار الجديد أوقف التوسع في الاستثمار في البناء، وبدأت الدولة في تخطيط مدن جديدة تكون بعيدة عن العمران القائم. لكن ذلك لم يلبي احتياجات الكثير من السكان، لذلك استمر الوضع كما هو عليه.
-
إذن.. وما هي مشكلات المدن الجديدة؟
من وجهة نظري، المشكلة الأساسية تكمن في أن المدن الجديدة كانت مخصصة فقط للطبقات العليا والمتوسطة العليا. أما الطبقات المتوسطة الدنيا ومحدودو الدخل فقد تم تجاهلهم.
-
وما الحل لمنع تكرار هذه الأخطاء خصوصًا مع توسع الحكومة في إنشاء العديد من المدن الجديدة خلال الفترة الماضية؟
الحل هو إنتاج إسكان مخطط لمحدودي الدخل، لأن المدن الجديدة من المفترض أن تستوعب كافة الطبقات الاجتماعية لتحقيق التكامل فيما بينها. وليس منطقيًا عزل محدودي الدخل عن هذه المدن. يجب أن نتخلى عن هذه النظرة الطبقية. نحن الآن ما زلنا في نفس المأزق لأننا نقوم ببناء مجتمعات عمرانية وإسكان يخص الطبقات فوق المتوسطة.
أما بالنسبة للسكن المدعوم فيجب التخلي عن فكرة بناء وحدات سكنية تحتوي على ثلاث غرف وأن تقتصر فقط على غرفة واحدة أو اثنتين. التخلي عن غرفة واحدة سيمكننا من زيادة أعداد الوحدات السكنية؛ وبالتالي استيعاب قدر أكبر من الناس. وهذا هو المطلوب في الوقت الحالي. كما يجب تخطيط مناطق كاملة لمحدودي الدخل. وهذه المناطق يمكن إنتاجها وفقًا لطريقتهم الخاصة لكن مع ضرورة وضع اشتراطات بعينها، ومخططات تضمن عدم تكرار سيناريو إنتاج العشوائية.
والمشكلة أن عدد المدن التي أُنتجت في الفترة الماضية والمخططة لمحدودي الدخل قليل جدًا. والإسكان الاجتماعي الذي تنتجه الحكومة هو مخصص للطبقات المتوسطة وليست الدنيا، أما الإسكان الذي يشرف عليه القطاع الخاص فهو مخصص للطبقات العليا؛ لذلك أرى أن الطبقات الدنيا ليس لديها أي فرصة للانتقال للمدن الجديدة، ولهذا أيضًا سيستمر الطلب على العشوائيات ما دمنا لم نضع حلولًا.
ومن الضروري إعادة النظر في تخطيط المدن الجديدة، وعدم عزلها عن الطبقات الدنيا. نحن ننتج حاليًا منازل لأشخاص يريدون الاستثمار فقط وليس السكن، وهي بمرور الوقت تتحول لوحدات سكنية مغلقة غير مسكونة؛ لذلك على الحكومة التخلي عن الفكرة. صحيح أن أعمال البناء والتشييد تضمن تقليل نسب البطالة في المجتمع. وصحيح أن الناس حاليًا لا يشتكون من البطالة. لكنهم في المقابل يشتكون الغلاء. وعلى أية حال لم يعد هناك الآن احتياج لاستمرار عمليات البناء المخصصة للطبقات العليا.
-
لكن وقف عمليات البناء معناه أن نسب البطالة المرتفعة في المجتمع ستعود مرة أخرى، أي أن حل المشكلة سيصدر لنا المزيد من الأزمات الأخرى.. هل تعتقد ذلك؟
أولًا يجب أن نعرف أننا لا نعاني من عجز في الوحدات السكنية، بل هناك فائض كبير يتجاوز احتياجنا. وفقًا لبيانات الإحصاء، هناك فائض في المنازل بمعدل 37%. الحل هو تقليل حركة البناء في المدن الجديدة والتركيز على إنشاء مصانع ومشروعات تهتم بقطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والبحث العلمي. لأن التعويل على الأجانب لشراء العقارات ليست ظاهرة جيدة، وهي أمور تقودنا لما يطلق عليه مصطلح الفُقاعة العقارية، وهو وضع خطير يجب أن نتفاداه؛ لذلك ينبغي توجيه أموال الناس للاستثمارات المنتجة التي توفر فرص عمل حقيقية كالمصانع وغيرها.
-
كيف تُقيم تجربة العاصمة الإدارية الجديدة؟
كنت أتمنى لو نُوقشت فكرة العاصمة الإدارية بشكل أوسع. كنت أفضل توجيهها جنوبا إلى شمال الصعيد، مثل المنيا أو غرب بني سويف. أما إذا أردنا إبقاءها قريبة من القاهرة، فإن الفيوم كانت الاختيار الأنسب، نظرا لبعدها عن الحدود الدولية والتوترات السياسية.
وهذه المنطقة التي أقيمت عليها العاصمة الإدارية تقع بالقرب من منطقة الكيلو 101 التي تواجد فيها الصهاينة وقت الثغرة، وهي قريبة من قناة السويس، محل مطمع وصراع دائم بين القوى الكبرى في العالم. لذلك في ظني أنه كان من الضروري مراعاة هذه الأمور، حتى لا تصبح العاصمة مهددة في أي وقت من الأوقات. فالعواصم يجب أن تكون في العمق، وليست قريبة من السواحل.
-
وكيف يمكن أن تنجح التجربة؟
علينا الآن بناء مناطق صناعية كبيرة داخل العاصمة الإدارية، وإنشاء أحياء سكنية للعمال ومحدودي الدخل، كي لا يقتصر دورها على النشاط الخدمي فقط. فالعاصمة الإدارية قريبة من الموانئ، مما يتيح لها أن تكون مدينة صناعية متقدمة تخدم على التصدير.
لكن أظن أنه في الوقت الحالي لن يتم الالتفات لهذا الحل، لأن عزل العاصمة الإدارية يعد أكثر أمانا للدولة المصرية، كي لا يتم شلها في أي وقت، كما حدث خلال أحداث يناير 2011. مع ذلك أعتقد أن فترة عدم الاستقرار السياسي لم تعد موجودة مثل الماضي. وأقصد هنا أن الدولة حين فكرت في إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة كانت تمر بلحظة عدم استقرار سياسي، وهذه اللحظة قد انتهت. لذلك من الممكن إعادة التفكير في ساكني العاصمة الإدارية الجديدة وإعادة تخطيطها لضمان نجاح التجربة.
اقرأ أيضا:
محمد حمزة: هدم المقابر لن يتوقف.. و«العناني» غير مؤهل لمنصب مدير اليونسكو