د.سامح حنا: «ترجمة الكتاب المقدس».. السفر إلى النص في زمنه واستدعاؤه في زمننا
الدور البشري في ترجمات الكتاب المقدس.. أسئلة اللغة والثقافة والهوية
«الترجمة ليست مجرد عملية لغوية تنقل المعنى بين لغتين، بل هي مسعى معقد يتفاعل فيه الزمان والمكان، اللغة والثقافة، لتتعدد الأبعاد التي تحملها النصوص المترجمة. بداية من الترجمة الأدبية التي تسعى إلى نقل روح النصوص القديمة، وصولا إلى الترجمة الدينية، مثل ترجمة الكتاب المقدس، التي تُعد من أعقد التحديات في هذا المجال».
وفي هذا السياق، يبرز الدكتور سامح فكري حنا، الباحث في مجال دراسات الترجمة ومستشار ترجمة الكتاب المقدس بالإتحاد الدولي لجمعيات الكتاب المقدس، والرئيس السابق لقسم الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية بجامعة ليدز البريطانية، وهو أستاذ متفرغ ومشرف على رسائل دكتوراه في عدد من الجامعات البريطانية.
يرى “حنا” أن الترجمة تتجاوز مجرد تحويل الكلمات من لغة إلى أخرى، بالنسبة له، الترجمة هي عملية ثقافية واجتماعية تتطلب فهما عميقا للنصوص المترجمة. وهو يركز على فهم الديناميكيات الاجتماعية والثقافية التي تحكم ترجمة النصوص التقليدية في السياق العربي الإسلامي. باستخدام علم اجتماع الترجمة كأداة لفحص تأثير اللغة والممارسات الثقافية على عملية الترجمة في الثقافات العربية المختلفة عبر الزمن والمكان.
إلى جانب عمله الأكاديمي، أصدر ثلاثة كتب، منها ترجمة كتابي «لقاءات شخصية مع يسوع: إجابات غير متوقعة عن أسئلة الحياة الكبرى» لتيموثي كلر، و«مستعدون للمجاوبة» لوليم لين كريج، عن دار أوفير للطباعة والنشر، وأكثر من أربعين ورقة بحثية، كما حاز على العديد من الجوائز عن أعماله في الترجمات الأدبية والمسرحية، مثل جائزة تشجيع الترجمة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر عن ترجمته لكتاب “جمهور المسرح” عام 1994، وجائزة أفضل كتاب مترجم من معرض القاهرة الدولي للكتاب عن ترجمته لكتاب “المسرح الطليعي” عام 1995.
في حوار خاص مع «باب مصر» يتحدث الدكتور سامح فكري حنا عن سياقات الترجمة في الأدب وترجمات الكتاب المقدس، وعلاقتها بالثقافة والسياق التاريخي، وكيفية الحفاظ على دقة المعنى في ظل الاختلافات الثقافية التي قد تطرأ عند الانتقال بين لغات وثقافات متنوعة. وإلى نص الحوار..
-
هل الترجمة هي مجرد نقل للكلمات أم هي عملية إبداعية تتطلب قدرة على فهم السياق الثقافي والتاريخي للنص؟
الكلمات وحدها لا تتنفس إلا داخل سياق؛ ولا تمنح سِرها أو تفصح عن معناها إلا في علاقاتها بعضها ببعض، وبالسياقات التي ينتج من داخلها المتكلم/الكاتب الموقف التواصلي، وتلك التي يتلقى داخلها القارئ/السامع هذا الموقف. السياق نوعان: سياق لغوي وسياق موقفي-تداولي. السياق اللغوي يتضمن اختيار الكلمات وترتيبها داخل الجملة والفقرة والنص. تغيير ترتيب الكلام، كما هو الحال في التقديم والتأخير في العربية وغيرها من اللغات، كفيلٌ بإنتاج علاقات معنى مختلفة وإحداث تأثير مختلف على القارئ.
-
هل من الجائز استخدام المجاز؟
نعم، يضم السياق اللغوي استخدام لغة المجاز وعلاقة المجاز بثقافة المرسل والمستقبل. فالمجاز الفعال المنتج للمعنى في لغةٍ ما قد يعجز عن إيصال المعنى عند نقله إلى لغة أخرى. قد يضطر المترجم إلى إيجاد مجاز موازي أو، في أحيانٍ أخرى، قد يفضل الإبقاء على المعنى وإيصاله في لغة تقريرية. كما أن المجاز يتطور تاريخيًا داخل اللغة الواحدة؛ فالمجاز الذي استخدمه الجاحظ في زمانه قد يصعب أن يأتي بنفس التأثير على قارئ القرن الحادي والعشرين. أما السياق الموقفي-التداولي فيضم الخلفية الاجتماع-ثقافية للمرسل (متكلمًا كان أو كاتبًا) وللمستَقبِل (قارئًا أو سامعًا)، والوسيط الذي يقدم من خلاله النص، وطريقة تقديمه للمتلقي، بدءًا من الغلاف والمقدمة والهوامش وكلمة الناشر على الغلاف الخلفي، إلخ.
-
كيف طبقت منهجك في دراسة وترجمة نصوص شكسبير؟
مدخلي لدراسة ظاهرة الترجمة هو علم الاجتماع، وخصوصًا علم اجتماع الإنتاج الثقافي. ومنذ دراستي للدكتوراه التي تحولت إلى كتاب نشرته دار راوتلدج عام 2016، ركزت على دراسة التاريخ الاجتماعي لترجمة النصوص الكلاسيكية إلى اللغة العربية، خصوصًا نصوص شكسبير. وكان الغرض هو البحث في نص الترجمة بوصفه وثيقة اجتماعية-ثقافية كاشفة عن آليات إنتاج الثقافة في الزمن الذي أُنتِجَت فيه.
وفي حالة النصوص الآدائية كالمسرح، يلعب الظرف التاريخي والصيغة المسرحية دورا كبيرا في هندسة معنى النص والتحكم في طرائق تلقيه. مثلًا تخيل الفارق بين تقديم مسرحية “عطيل”، التي تحمل دلالات عرقية، وقت شكسبير وتقديم نفس المسرحية في جنوب إفريقيا تحت نظام الفصل العنصري أو في أمريكا في الخمسينيات والستينيات. كذلك تخيل تقديم مسرحية يوليوس قيصر التي تدور عن السلطة وآليات تحديها، على المسرح في أي دولة عربية – وهذه المسرحية هي الأقل تقديمًا بين نصوص شكسبير في اللغة العربية، لأسباب لها علاقة بمادتها وموضوعها وتأثيراتها المحتملة حال تقديمها في وسيط جماهيري كالمسرح.
-
ما هي المبادئ الأساسية التي تلتزم بها أثناء ترجمة أي نص؟ وهل تختلف هذه المبادئ عندما يتعلق الأمر بالترجمة الأدبية مقارنة بالدينية؟
في الوقت الحالي، لا أترجم، وإن كنت أصرف وقتي في الإشراف على مشروعات ترجمة وتقديم أبحاث حول الآليات الاجتماعية- الثقافية للترجمة. ولكن من خبرتي، تختلف المبادئ باختلاف نوع النص والجمهور المستهدف. المعياران الأساسيان اللذان يضعهما أي مترجم نصب عينيه قبل الشروع في الترجمة هما الدقة والمقروئية.
وتتباين نسب الالتزام بهذين المعيارين تبعًا لاختلاف نوع النص والجمهور المستهدف. فإذا كان النص تقريرًا أو عقدًا قانونيًا أو نص اتفاقية دولية تصير الأولوية للدقة، وإن كان النص أدبيًا أو نصًا مقدسًا فلابد من إحراز درجة من التوازن بين الدقة والمقروئية، على ألا يجور أحد المعيارين على الآخر.
-
كيف تلعب وظيفة النص في لغته الأصلية دورا في هذه المسألة؟
فهم وظيفة النص في لغته الأصلية مهم في تحديد نسب المعايير ودرجة الانسجام بينها، فالوظيفة التي يلعبها النص في اللغة التقريرية تختلف عن تلك التي يؤديها النص المقدس، مع اعتبار أن كل «نص مقدس» يحمل داخله أنواعا وأنماطا مختلفة تتراوح بين التقريري والتشريعي والتاريخي والسردي والشعري. وأنا هنا أتحدث على وجه الخصوص عن الكتاب المقدس كما يعرفه المسيحيون.
-
في رأيك، ما هي أهم الفروقات بين النسخ المختلفة للكتاب المقدس وكيف أثر ذلك على الترجمة؟
في البداية، سأعبر عن أسفي الشديد عندما أسمع كلامًا من غير المتخصصين وهم يتحدثون عن الفروقات بين نسخ الكتاب المقدس من منطلق هجومي-دفاعي. وللأسف، ساعدت السوشيال ميديا على انتشار خطابات شعبوية كثيرة تفتقر للمعايير الأكاديمية في كلامها عن موضوع متخصص كنسخ الكتاب المقدس. وسأحاول الإجابة باختصار: فالكتاب المقدس نص بالغ القدم، والمخطوطات التي اكتشفت في وادي قمران تعود إلى 250 سنة قبل الميلاد، وهناك بعض القصاصات التي تم اكتشافها وتعود إلى القرن السابع قبل الميلاد.
هذه النصوص بدأ بعضها شفهيًا، لاسيما بعض نصوص العهد القديم، ثم تم تسجيله لاحقًا في نصوص مكتوبة. وهناك نصوص أخرى كُتِبت لكي تُقرأ شفاهًا في الكنائس، مثل نصوص الرسائل التي كتبها رُسل المسيح للكنائس الصغيرة المنتشرة في آسيا الصغرى وأوروبا في العصر المسيحي الأول. هذه الوظائف والوسائط المختلفة التي تنتقل عبرها النصوص تفتح احتمال وجود اختلافات طفيفة تتعلق بأخطاء في الهجاء من قِبل النُسَّاخ أو أخطاء متعلقة بتشابه في الهجاء بين كلمتين. هنا تأتي أهمية علم هام نشأ وتطور في الأوساط الأكاديمية الغربية وهو علم النقد النصي المظلوم في أوساطنا العربية، بسبب سوء الفهم ومحدودية المعرفة. يهدف هذا العلم أساسًا إلى مقارنة النسخ القديمة للوصول إلى أدق تصور ممكن عن النص.
***
فإذا نظرنا إلى العهد الجديد، مثلًا، سنجد أن عدد المخطوطات القديمة المتاحة باللغة اليونانية التي كُتِبت بها هذه النصوص يصل إلى 5800 مخطوط، بالإضافة إلى مخطوطات أخرى متاحة بلغات قديمة كاللاتينية (عشرة آلاف مخطوط) وبالسريانية والقبطية والأثيوبية والأرمينية وغيرها (وعددها يقارب 9300 مخطوط). عندما فحص علماء النقد النصي كل هذه المخطوطات وجدوا أن الاختلافات لا تتجاوز نصف بالمائة، وكلها كما ذكرت أخطاء هجائية للنساخ، لا تؤثر من قريب أو بعيد على جوهر العقيدة.
وهنا أُحيل القارئ إلى كتاب صغير الحجم، كبير القيمة، صدر مؤخرًا عن دار الكتاب المقدس المصرية تحت عنوان “أعظم كتاب”، يسرد تاريخ النص الكتابي وكيف وصل إلينا؛ وكنت قد كتبت الجزء الأخير فيه عن وصول الكتاب المقدس إلى اللغة العربية واللهجات القبطية. الكتاب موجه لغير المتخصصين ممن يرغبون في التعرف على تاريخ الكتاب المقدس.
-
حدثنا عن نتائج دراساتك السابقة والمقارنات التي عقدتها بين أكثر من ترجمة للكتاب المقدس.
مدخلي لدراسة ظاهرة الترجمة هو علم الاجتماع الثقافي. وطبقت نفس هذا المنهج على تاريخ الكتاب المقدس في اللغة العربية، وأذكر منها دراستين: الأولى تحمل عنوان «إنتاج المعرفة وتشكيل الهوية في ترجمتين للكتاب المقدس». وأخرى عن التاريخ الاجتماعي لترجمة الكتاب المقدس، والمنشورة في دراسة بعنوان «إعادة الترجمة والتفاوض على السلطة في ترجمة الكتاب المقدس: منظور اجتماعي للترجمة العربية البروتستانتية للكتاب المقدس 1865». في هذه الدراسات أقوم بعدد من دراسات الحالة عن ترجماتٍ بعينها، منها ترجمة الأناجيل التي قام عليها أسقف آشوري عام 1300 هو عبد يشوع الصوباوي. الذي نقل من خلالها الأناجيل إلى عربيةٍ مسجوعة، وكانت هذه الترجمة نصًا طقسيًا يُقرأ على مسامع الناس في العبادة الكنسية.
كما نظرت في ترجمة للعهد الجديد إلى العامية المصرية قام عليها السير ويليام ويلكوكس في عشرينيات القرن الماضي، بمساعدة من بعض المسيحيين المصريين، وكانت تحت عنوان “الخبر الطيب بتاع يسوع المسيح”. وبالمناسبة ويليام ويلكوكس كان المهندس المدني الذي صمم سد أسوان وكان من الوجوه الثقافية البارزة في بدايات القرن العشرين، ومن الشخصيات التي أثارت جدلًا كبيرًا في دفاعه عن العامية المصرية وتشجيعه على استخدامها.
أيضًا قمت بدراسة الترجمة العربية للكتاب المقدس، الشائعة بين المسيحيين العرب والمعروفة بـ«البستاني-سميث-فانديك»، نسبةً إلى الأشخاص الأساسيين الذين قاموا عليها وهم بطرس البستاني وكرنيليوس فانديك وعالي سميث. وكان الأخيران مستعربين أمريكيين يعملان ضمن الإرسالية الأمريكية في بيروت في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
-
ما الغرض الأساسي من هذه الدراسات؟
في كل هذه الدراسات كان الغرض هو تسليط الضوء على العنصر البشري في الترجمة، والآليات المجتمعية التي حكمت سياسة الترجمة ومعاييرها والجمهور المستهدف منها. صحيح أن هذه الترجمات تنقل نصًا مقدسًا، لكن العامل البشري فيها لا يمكن إغفاله أو تجاهله. ومن هنا جاء اهتمامي بالهوية الكامنة وراء كل ترجمة؛ فبالنسبة للصوباوي، مثلًا، أراد أن يقدم هوية مسيحية عربية عابرة للحدود الدينية. وذلك بعد سياسات التعريب في المشرق العربي واحتياج الجيل الثاني من المسيحيين العرب إلى ترجمات في اللسان العربي الذي شبوا عليه ولا يعرفون غيره. وفي حالة ترجمة العهد الجديد للعامية، جاءت الترجمة محاولةً لدعم الهوية المصرية من ناحية وفض الارتباط الشرطي بين الفصاحة والقداسة من ناحيةٍ أخرى. لاسيما أن نصوص العهد الجديد كُتِبت أساسًا بلهجة يونانية معروفة باليونانية الشعبية.
-
في رأيك، هل ترجمة الكتاب المقدس فعل محايد؟
كما أسلفت، لا توجد ترجمة محايدة تمامًا. وعدم الحياد لا يحدث بالضرورة من خلال قرار مسبق من المترجمين، لكنه كثيرًا ما يحدث بشكل غير واع؛ فكل مترجم نتاج حساسية لغوية معينة ويعمل وفق سياسة ترجمية وتحريرية محددة ويتوجه بالترجمة لجمهور محدد. هذه العوامل تؤدي إلى اختلاف الصياغة والخيارات اللفظية في الترجمات المختلفة دون تغيير في الرسالة اللاهوتية-العقائدية.
-
وأين تكمن القداسة، في المعنى أم المفردات اللغوية. وهل تتأثر قداسة النص بانتقالها من لغة إلى أخرى؟
القداسة في رؤية الوجود التي تكمن وراء النص والمتجسدة في تراكيبه وألفاظه في اللغات الأصلية. يسافر المعنى من ألفاظٍ وتراكيب إلى ألفاظٍ وتراكيب مكافئة في لغاتٍ متعددة، وتبقى رؤية الوجود وما يسميه المسيحيون “قصة الخلاص” واحدة.
-
هل توجد آيات أو مقاطع معينة في الكتاب المقدس صعبة في فهم معانيها أثناء الترجمة؟ وكيف يتم التعامل معها؟
صعوبات الترجمة مختلفة. بعضها لغوي وبعضها ثقافي-اجتماعي. في الحالتين يعتمد المترجمون على الباحثين في لغويات النص المقدس وخلفياته الاجتماعية-الثقافية. بالنسبة للمعضلات اللغوية، يكون التعامل معها من خلال تحليل السياق ومكوناته، فيتم تحليل الألفاظ واستخداماتها في كل سفر من أسفار الكتاب المقدس. كما يتم الاستعانة ببرامج وأدوات اللغويات الحاسوبية في تحليل النص. أما المعضلات المرتبطة بالخلفيات الثقافية، فيستعان عليها بفحص ثقافات الشرق الأدنى والثقافات اليونانية-الرومانية في القرون المسيحية الأولى. وما تبقى منها من نصوص وآثار تساعد على فك شفرة بعض هذه المعضلات.
-
كيف أثر فهمك الثقافي والديني على أسلوبك في دراسة وترجمة الكتاب المقدس؟
منهجي في دراسة الكتاب المقدس ينطوي على مستويين: الأول يقوم على السفر إلى النص المقدس في زمنه وبيئته والجلوس إليه والإنصات له، في محاولة لابتناء المعنى كما تلقاه المتلقي الأول. المستوى الثاني يقوم على جعل النص المقدس يسافر إلينا في زماننا. لنجعله ينصت إلينا ليفهم تحدياتنا ويضطلع على أسئلتنا. هذا التوتر بين السفر للنص في زمانه واستدعاءه في زماننا هو ما يفضي إلى قراءة مُنتِجة، فعالة، تصون فعل القراءة من أحد خطرين: تحويله إلى قطعة متحفية صامتة نشاهدها من خلف جدران زجاجية. أو تدجينه وإفقاده هويته التاريخية-الحضارية بنزعه من سياقه وإخضاعه لسياقاتنا.
-
هل تعتقد أن هناك فرقا بين الترجمة الحرفية للكتاب المقدس والترجمة المعنوية؟ وأيهما تفضل؟
يكمن الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية في الوظيفة المرتجاة من الترجمة. إذا كان الهدف تقديم نص لغير المتخصصين الراغبين في فهم النص واستدعاءه للزمن الحاضر، مالت الترجمة في هذه الحالة إلى التركيز على المعنى. أما إذا كان الغرض هو تقديم ترجمة للدارسين، الراغبين في الاقتراب أكثر من النص الأصلي، مالت الترجمة في هذه الحالة إلى الحرفية. طبعًا الحرفية والمعنوية ليست ثنائية صماء، لكن هناك درجات متفاوتة بين هذين القطبين. وهذا التفاوت نجده في كل لغة تُرجم الكتاب المقدس إليها. كما ذكرت، رؤية الوجود وقصة الخلاص واحدة، لكنها مقدمة بشفرات لغوية مختلفة تناسب وظائف مختلفة وجماهير متلقين متباينين.
-
هل جيل زد وألفا يتطلب نوعا أو طريقة مختلفة لترجمة الكتاب المقدس. وما هي؟ كما أشرت لترجمة الكتاب المقدس بالإنجليزية “الرسالة”.
نعم، شفرات التواصل تتغير من جيل إلى جيل. والنص المقدس، في فهمي، يفترض أن يكون حيًا، ديناميكيًا، قادرًا على التواصل مع جماهير مختلفة في أزمنة مختلفة. إذا افترضنا أن النص المقدس هو للخاصة والنخبة فقط وأنه لا يمكن أن يتلامس مع العقل والوجدان إلا في حضور المعاجم. فقد قمنا بتحنيط النص لنشاهده من خلف صندوق زجاجي، وربما نبدي إعجابنا به، دون أن يكون له أدنى صلة بواقعنا وبأسئلة زمننا.
لهذا ترجمة كترجمة “الرسالة” في الإنجليزية تم إنجازها لتخاطب الشباب بلغة إنجليزية حديثة وديناميكية. بالطبع هناك هنات وضعفات، ولكن إجمالًا الترجمة تؤدي الوظيفة التي ارتضاها لها القائمون عليها. أظن أننا بدأنا نستوعب ذلك فيما يتعلق بالترجمات الحديثة للكتاب المقدس.
-
هل توجد ترجمات قديمة للكتاب المقدس باللغة العربية ترى أنها كانت أكثر دقة في نقل المعاني؟
هناك ترجمات جيدة جدًا للكتاب المقدس، سواء في القبطية أو العربية. ونخسر كثيرًا إذا غاب عنا هذا التراث الترجمي الغني. وشرع اليهود والمسيحيون الناطقون بالضاد في ترجمة الكتاب المقدس منذ القرن التاسع. وهناك العديد من الترجمات التي التزمت الدقة بمعايير زمانها. كما أجادت في تقديم النص بالصياغة المناسبة لجمهور القراء في الأزمنة المختلفة.
وأشير مثلًا إلى ترجمات سعديا جاوون، وهو معلِم يهودي مصري وُلد في الفيوم واشتغل معظم حياته على تقديم تفسير وترجمة للكتاب المقدس اليهودي. أو العهد القديم كما يسميه المسيحيون بلغة وتفسير يناسبان اليهود الناطقين بالضاد في القرن العاشر الميلادي. هناك أيضًا ترجمة متميزة للأناجيل الأربعة قام عليها الأسعد أبي الفرج هبة الله بن العسال في القرن الثالث عشر. وقام على تحقيقها في طبعة ممتازة الدكتور صموئيل قزمان معوض ونشرتها مدرسة الإسكندرية للبحوث اللاهوتية.
-
كيف يمكن أن تساعد ترجمات الكتاب المقدس في بناء حوار بين الأديان المختلفة في العالم العربي؟
الحوار يقوم على الفهم؛ وأولى خطوات فهم الآخر الديني هي فهم نصه المقدس. ومن هنا تأتي أهمية الترجمات الحديثة التي تعطي الأولوية للمقروئية دون أن تجور على الدقة.
-
كيف يمكن للمترجم التعامل مع المصطلحات الثقافية التي لا يوجد لها مقابلات مباشرة في اللغة الهدف؟
قبل التعامل مع المصطلحات الثقافية، على المترجم أن يسأل نفسه سؤالين: ما دلالة التعبير الاصطلاحي الثقافي؟ وما سبب استخدامه هنا في هذا السياق؟ قد يكون التعبير الاصطلاحي مستخدما على سبيل “التلطف”، أي استخدام تعبير مخفف لتفادي اصطدام القارئ بتعبير يقترب من المحرمات الثقافية. مثلًا نقرأ في سفر التكوين أن آدم “عرف” امرأته حواء؛ ويتكرر نفس الفعل في مرويات الآباء. الفعل المترجم إلى “عرف” في العربية هو ترجمة حرفية للفعل العبري المستخدم في هذا السياق تلطيفًا لمعنى “إقامة العلاقة الزوجية”. بعض الترجمات تلجأ للحفاظ على التلطف، والبعض الآخر يعطي أولوية للوضوح ويستخدم تعبيرات من قبيل “تزوج” أو ما شابه.
-
هناك الكثير من المترجمين الكبار يجهلون نظريات الترجمة، وفي المقابل هناك باحثون بارزون في مجال نظريات الترجمة ولكنهم لا يمارسون عملية الترجمة. إذن ما نفع هذه النظريات؟
نظريات الترجمة أنواع، ولا يصح أن نضعها جميعًا في سلة واحدة. هناك نظريات موجهة للمترجم الممارس وتتعلق بفهم الترجمة كعملية وإجراء. وهناك نظريات وظيفتها ليست تعليمنا كيف نترجم، وإنما تنويرنا بكيفية قراءة نص الترجمة وفهمها لغويًا واجتماعيًا وثقافيًا. ولكل نظرية نفعها إذا ما فهمنا الغرض منها.
-
أخيرا، كيف ترى مستقبل الترجمة في العصر الرقمي؟ هل تعتقد أن التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي ستؤثر عليها؟
تقنية الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون لعنة أو بركة. إذا ما تصورنا أنها بديل للإبداع البشري صارت لعنة؛ وإن فهمناها بوصفها داعما ومعينا للإبداع البشري صارت بركة.