حكاية “وفاء النيل”.. لماذا احتفل المصريون بفيضان النهر العظيم؟
“لأنك خلقت نيلًا في السماء، لينزل لأجلهم ويحدث أمواجا فوق الجبل مثل أمواج البحر، لتروي حقولهم التي في قراهم، ما أجمل أعمالك يا رب الأبدية”، هكذا صلى إخناتون لأجل النيل.
كان الاحتفال بفيضان النيل يعني الاحتفال بضمان استمرار الحياة في مصر إلى عام آخر، هذا الاحتفال كان مقيدًا بتراوح زيادة النيل بين 12 إلى 16 ذراعًا، أي حينما يكون القياس 24 قيراطًا، وقتها يخرج الموظف المختص بقياس النيل ليخبر الحاكم أن الحياة كلها 24 قيراطًا، وهو ما يعني استقرار الحكم والحياة الاقتصادية، من أجل ذلك تناقل الناس قولهم “الحالة 24 قيراط كناية عن استقرار الأمور”.
ولعل الجغرافيين والرحالة العرب خير من عبروا بطريقتهم عن تفرد النيل، فإذ لم يكن النيل نهر ينبع من الجنة أو نهر من أنهار الجنة أو نهر من عسل في الجنة فإنه على الأقل سيد الأنهار كما روي عن عمرو بن العاص.
ابن مماتي الوزير الأيوبي (توفى عام 1209)، يصف النيل في كتابه قوانين الدواوين بقوله “ليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال غير النيل، وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال غير النيل وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين والهند غير النيل وليس في الدنيا نهر يجري في أشد ما يكون الحر غير النيل وليس في الدنيا نهر يزيد وينقص على ترتيب الا النيل وليس في الدنيا نهر يجري إذا نقصت مياه الدنيا إلا النيل…”
ما يذكره ابن مماتي يكاد يكون إيجازًا لما يذكره الحسن بن زولاق (المتوفي 387من الهجرة) في كتاب فضائل مصر وأخبارها مع اختلافات في الألفاظ.
سجل المصريون درجات علو وانخفاض في النيل، كما وثقوا احتفالاتهم الدينيه به وأناشيدهم له، يذكر لاروس بيير لاروس (1817 – 1875 م) هو معجميّ وموسوعيّ فرنسي، في معجمه “القاموس الجامع الكبير للقرن التاسع عشر” تحت مادة نيل “nil” أن فيضانات النيل أدهشت القدامى الذين حاولوا معرفة أسبابها وأصل منبعه.
نعمات فؤاد في كتابها “النيل في الأدب الشعبي تقول إن المصريين القدماء لاحظوا توافق موعد الفيضان مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وكان هذا الربط هو بداية التقويم المصري، ومن ثم التوسع في علم الفلك، فهل كان النيل أصل علم الفلك في مصر؟
كيف أثر النيل في أغاني المصريين: من هنا كيف ربط المصريون أفراحهم وأحزانهم بالنهر؟
وفاء النيل و”يوم الزينة”
المؤرخ الكبير المقريزي يذكر في خططه أن بعض مفسري القرآن ذكروا أن يوم الوفاء هو اليوم الذي وعد فيه فرعون موسى بالاجتماع، وهو ذلك اليوم الذي أطلق عليه القرآن “يوم الزينة” في قوله “قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ”، وهو ما أيده شهاب الدين النويري في موسوعته “نهاية الإرب في فنون الأدب”.
عيد الشهيد
يذكر المقريزي عيدًا أطلق عليه “عيد الشهيد” يقول، ويزعم المصريون أن النيل لا يزيد في مصر كل عام إلا إذا ألقوا تابوتًا من خشب فيه إصبع من أصابع أسلافهم الموتى، ويكون ذلك عيدًا يخرج فيه عامة أهل القاهرة وينصبون الخيام على شطوط النيل.
ويروي على باشا مبارك في خططه التوفيقية أن المصريين كانوا يجتمعون على شاطئ النيل في اليوم الثامن من شهر بشنس “عيد الشهيد”، يفدون من جميع القرى ويركبون الخيول ويلعبون عليها، وتنصب الخيام على شطوط النيل.
وقد اقترن ذكر الاحتفال بفيضان النيل بإلقاء “عروس النيل” في النهر، ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنه لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص فقالوا يا أيها الأمير إن لنيلنا سُنّة لا يجري إلا بها وهي أن نعمد إلى جارية بكر نُزينها ونُلقيها في النيل، وبعد رفض ابن العاص بلغ الأمر عمر بن الخطاب فبعث بطاقة مكتوب فيها “من عبدالله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله يجريك فأسأل الواحد القهار أن يجريك، وألقى البطاقة في النيل فأجراه الله ستة عشر زراعا في تلك الليلة.
قراءة المزيد عن فيضان النيل.. من هنا: “بحر الدميرة”.. الوجه الغاضب لـ”النيل”
النيل كما لو كان مصريًا
اللافت للانتباه في هذه الرواية، بغض النظر عن مدى صحتها، هو أنه عندما ربطت بين عمر وبين النيل أنسنت النيل “جعلته إنسانًا”، فحدَّث عمر النيل وخاطبه وراسله، كما لو كان مصريًا.
والواقع أن ما يُذكر في كتب التاريخ حول “عروس النيل” والطقوس التي تُجرى، ينظر إليها الباحثون على أنه محض أسطورة لا سند لها، فما كان مجتمع متحضر مثل مصر القديمة يأتي بهذا الفعل.
سامي حرك، باحث تراث، مؤسس مبادرة حراس الهوية المصرية، يقول إن “عروس النيل” أكذوبة لا يوجد أي دليل أثري عليها، كما أنها لا تناسب قيم وأخلاق المصريين القدما.
ما ذهب إليه حرك يتفق مع رأي نعمات أحمد فؤاد في كتابها النيل في الأدب الشعبي، معتمدة على رأي الدكتور محمد حسين هيكل (شاعرٌ وأديبٌ وسياسي مصري كبير، ولد في 20 أغسطس 1888.
ملخص ما يذكره هيكل هو أن الفراعنة كانوا على قدر كبير من التقدم والحضارة، كما أن انتشار المسيحية في عهد الرومان لم يكن ليسمح بانتشار بدعة كهذه، فكيف انتشرت بعد وصول الإسلام؟
المزيد عتن معتقدات تناولت النيل.. من هنا: والأساطير أيضًا تعشق “حابي”.. معتقدات شعبية بطلها “النيل”
نعود إلى حرك الذي يقول إن وفاء النيل هو العيد الوحيد غير المقيد بيوم محدد، إنما يُحتفل به في فترة معينة، من بدايتها إلى نهايتها، وهي فترة الفيضان، وخاصة في شهري أغسطس وسبتمبر، لكن لم ذلك؟
الباحث يرجع ذلك إلى أن المدن المصرية كانت تحتفل بوصول “بشاير الفيضان” كما يذكرها بمجرد ظهور “عكارة المياه” بمدن الجنوب: إسنا ودندرة وطيبة وغيرها، وتستمر الاحتفالات بالمدن الشمالية مع زيادة منسوب المياه، فليس له وقت محدد.
قائمة الأعياد في مصر القديمة
ويتابع أن الاحتفال بـ”وفاء النيل” استمر في كل العصور، لأن وصول الفيضان إلى مصر ووفاء النيل “حابي” بوعده السنوي هو الحدث الدوري الأهم في حياة المصريين، الذي ينتظره الشعب لزراعة الأرض وتجديد حياتهم.
كما تنتظره الحكومات كموعد لجباية المكوس والرسوم والضرائب، واستمرت الاحتفالات به حتى الآن، إلا أنها لم يعد بنفس الأهمية، خاصة بعد بناء السد العالي، فقد قل الاهتمام الشعبي برصد وصول الفيضان.
بالأعلى فيديو نادر للاحتفال بـ”وفاء النيل”- 1930
لأنك خلقت نيلًا في السماء
كانت مصر لأنه كان النيل، هذا ما يفهم ضمنيًا في كلام أكثر من باحث، يقول جمال حمدان في شخصية مصر الجزء الثاني، وأيا ما كان فإن مصر طبيعيا هي هبة النيل، والحقيقة أن النيل نهر غير عادي بأي مقياس: جيولوجيا وجفرافيا وتاريخيا أو حضاريا
الجغرافي الكبير يصف النيل “هذا النهر الغريب” يخرق القاعدة، إذ إنه أحدث أنهار أفريقيا جيولوجيا ويخالف اتجاهه كل أنهار القارة تقريبا فهو يتجه طوليا من الجنوب إلى الشمال بينما معظم أنهار القارة في أكثرها عرضية تتجه من الشرق إلى الغرب أو العكس.
من أجل هذا صلى إخناتون للنيل مرددًا لأنك خلقت نيلًا في السماء، لينزل لأجلهم ويحدث أمواجا فوق الجبل مثل أمواج البحر، لتروي حقولهم…
مصدر الصورة: عرفة عبده، كتاب سحر مصر، الهيئة العامة للكتاب 2016
15 تعليقات