«حسن فؤاد» في أوراق قديمة منسية: ثورة في مصر

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» واختار له الصفحة الأخيرة للمجلة، واستكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية… إلخ. ليكتب بعضا من ذكرياته القديمة المنسية أو ورقة من سيرته الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب هو نموذجا بديعا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة المنسية لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات الصفراء القديمة لتصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق الفنان التشكيلي والسيناريست «حسن فؤاد».
كنا ستة وثلاثين فنانا مصريا نجلس في استرخاء لذيذ على مقاعد مقهى كبير في ميدان سان ماركو، أكبر ميادين فينيسيا، الحلم الذي يداعب خيال كل سائح في العالم. شوارعها مياه، وبيوتها وكنائسها ترتدي ثيابا قوطية كنساء القصور المترفات، وأسراب الحمام لا تفزع من الإنسان، بل تتجمع في أحضانه كالطفل الصغير. وأمامنا فرقة موسيقية تعزف “بيانو كونشرتولو” حمانينوف، ونحن نستمتع بلحظة من السعادة السريعة الغامرة في مكان نادر من الدنيا لا يأتي إليه إلا الفنانون والعشاق والسعداء.
أما نحن المصريين الذين كنا نجلس في هذا المقهى فقد وصلنا إلى المدينة منذ يومين لزيارة معرض البينالي العالمي في رحلة نظمها اتحاد خريجي الفنون الجميلة. وكان معظم الفنانين المشتركين في الرحلة قد جاءوا على شوق لرؤية إيطاليا وآثارها الفنية وليشاهدوا أعمالهم المعروضة في البينالي وسط أعمال الفنانين العالميين. كنا قد غادرنا مصر وشوارعها الرئيسية جثة هامدة سوداء بعد حوادث 26 يناير وحكومات الأقليات تتأرجح على الكرسي والغضب يعصف بالنفوس والبلاد حبلى بالثورة.
***
كنت أسافر هذه الرحلة مندوبا عن جريدة “المصري” في ذلك الوقت، وكان معي عدد كبير من الفنانين: جمال كامل، عبدالسلام الشريف، بيكار، صلاح طاهر، أبوالعينين أسعد مظهر، محمد عويس، أبوصالح الألفي، وزميلنا كمال الملاخ عن جريدة “الأهرام”، ولبنى عبدالعزيز طالبة الجامعة الأمريكية في ذلك الوقت، وأنيس منصور عن “الأخبار”، وطه فوزي أستاذنا في اللغة الإيطالية، وعشرات من الفنانين وأساتذة الرسم.
كانت الشمس قد بدأت تختفي وراء كنيسة سانتا ماريا صاحبة أجمل قبة في فينيسيا، وبدأت الأنوار تسطع في أرجاء الميدان وأسراب الحمام تتجمع في تراخ فوق قصر الدوكالي لتنام. ومراكب الجندول تدفع إلى الميدان بين حين وآخر بأفواج جديدة من السائحين والعشاق والمغامرين. وفجأة اندفع إلى الميدان بائع صحف يصيح بأعلى صوته:
- كولبو آن آجيتو
لم يسترع انتباهنا شئ أول الأمر، إلا أن الرجل كان يجري فيتجمع حوله الناس، يشترون الصحيفة ويشيرون بأيديهم هنا وهناك، وعلامات الدهشة والفضول تنتقل وراء الرجل حيثما وصل. لابد أن شيئا قد حدث. اقترب منا الرجل وعلا صوته على الموسيقى وهو يصيح:
- كولبو آن آجيتو
واسترعى انتباهنا كلمة “آجيتو”، أي مصر. واندفع الأستاذ طه فوزي إلى الرجل وانتزع الصحيفة منه، وألقى نظرة واحدة على المانشتيات العريضة ثم نظر إلى وجوهنا القلقة صائحا:
- ثورة في مصر.
يا لخطورة الكلمة في ذلك الزمان وفي ذلك المكان.
ثورة في مصر؟ كيف؟
***
وجلس طه فوزي ونحن من حوله، يترجم إلينا الأخبار المقتضبة. وكانت الصحف الإيطالية صريحة في توقعها لما سيحدث لفاروق وقتئذ. وصفق بعضنا وصحنا وقلنا جميعا أشياء كثيرة في صوت واحد، وتحركنا جميعا حركات هستيرية. كنا نريد أن نقول أشياء كثيرة خطيرة، كنا كمن يود التعبير عن كل ما تحمله الشعب وعاناه طوال السنين الحزينة الماضية.
ثورة في مصر… ثورة في مصر… أخيرا.. نعم أخيرا يا بلادي تنالين حظك في الحياة. ولكن هل كان يتصور واحد منا في ذلك الوقت أن “كولبو آن آجيتو” لا تعني مجرد نهاية نظام ملكي فاسد بقدر ما تعني بداية أخطر تغيير ثوري سيحدث في الحياة العربية والإفريقية؟
وجاء عبدالسلام الشريف يحتضننا وعيناه مغرورقتان بالدموع، وعصفت بنا التساؤلات، وتجمع الإيطاليون حولنا وبدأ بعضهم يتحدث بالعربية، فقد كانوا من الذين عاشوا في مصر طويلا، وكلنا يسأل ويجيب ويستنتج ويشرح ويفرح ولا نعرف كيف يمكن في جملة واحدة أن نستوعب ونحس كل ما تمناه الإنسان منذ وعت عيناه الحياة في بلادنا، منذ استمعنا إلى ثورة عرابي في درس التاريخ في مطلع صبانا، ونحن نحس المهانة والذل كلما اقتربنا من ثكنات الإنجليز في قصر النيل والقلعة في القاهرة. وحين يطلب منا أن نهتف بحياة فاروق وحين يطلب منا أن نصدق أنه من نسل النبي، حتى في فينسيا كانوا يبتسمون عندما يعرفون أننا مصريون، فيقولون: “هيه فاروق بيلادونيه”، ويعاملنا الباعة وأصحاب الفنادق كأننا نغرف من ذهب فاروق!..
***
وانتبهنا على صوت يصيح:
- يشيلوا الملك… يا نهار أسود؟
وأحطنا بالرجل. كان من صغار الموظفين الذين يجلسون في المقهى معنا، وعيناه جاحظتان والفزع يكاد يقتله! وسألناه: “مالك زعلان ليه؟”.
- مش معقول… الملك… الملك مولانا وسيد البلاد!
نعم، إن الرجل لا يصدق احتمال تغيير رئيسه. فما بالك باقتلاع ملك مثل فاروق. لقد كان اقتلاع فاروق هو إحدى الخوارق في ذلك الوقت، والإنجليز يعسكرون في القنال، والرجعية تحكم، والحركة الوطنية مضروبة، والحقيقة جريمة يحاسب عليها أصحابها. لقد فوجئنا في معرض البينالي بتمثال فاروق يتوسط المعرض باعتباره أعظم أعمالنا الفنية المعاصرة.
***
كل دول العالم كانت تستعرض مواهب أعظم فنانيها إلا مصر التي قدمت فاروق باعتباره راعي الحضارة والفن والمعرفة – كما جاء في مقدمة الكتالوج الذي كان يوزع بالإيطالية على الزوار-. وكان أول ما فعلناه بعد أن زال تأثير المفاجأة أن جمعنا الإمضاءات على عريضة تطالب برفع تمثال الملك من صدر المعرض وإلا حطمناه! ومضى الجميع. وأسرع صلاح كامل، سكرتير الأكاديمية المصرية في ذلك الوقت، ليبلغ إدارة المعرض هذا القرار. وتبادلت النظرات مع صديقي جمال كامل، ثم… ثم تنفسنا الصعداء. وبالتدريج بدأنا نهدأ ونركن إلى الصمت وتركنا أنفسنا للموسيقى والتأملات. ويمر الوقت ونحن جلوس لا نعرف ماذا نفعل. ويأتي الباعة بطبعات جديدة:
- كولبو آن آجيتو…. كولبو آن آجيتو!
ويمزقنا القلق واللهفة على وطننا. إننا في فينسيا في وقت غير ملائم. تبرق السماء وترعد بطريقة لا نعرفها في بلادنا. ويسطع الميدان بالنور، ويقصف الرعد مرة ومرات، ثم تهطل الأمطار قليلة متناثرة، ثم سريعة صاخبة. ويجمع الموسيقيون أدواتهم بسرعة ويغادر الجميع الميدان. ويخلو المكان إلا من جماعة البحارة الأمريكيين وهم يتراخون على الأرصفة، وصوت باعة الصحف مازال يتردد في أسماعنا:
- كولبو آن آجيتو
- كولبو آن آجيتو
23 يوليو 1964
اقرأ أيضا:
شوارع الفن في القاهرة (1): شارع محمد علي للصحافة والغناء والطرب