حتى لا تتكرر أخطاء القطاع العام: بين “المتحدة” والمؤسسة العامة للسينما
من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه بإعادة ارتكاب أخطاء الماضي، ولذلك تمثل تجربة صعود وسقوط القطاع العام في مجال السينما تجربة لابد من قراءتها ودراستها جيدا، حتى نعيد النظر في كثير من المفاهيم السائدة عن علاقة الدولة بالفنون، وحتى لا تتكرر أخطاء هذه التجربة بطريقة أخرى في العلاقة القائمة الآن بين الاثنين.
انتقلت مرحلة الغزل بين الدولة والسينما التي بدأت بعد قيام ثورة يوليو 1952 إلى علاقة رسمية بإنشاء مؤسسة دعم السينما 1957، وكما يظهر من اسمها، كان هدفها “دعم السينما في مصر وذلك برفع المستوى الفني والمهني لها” و”تشجيع عرض الأفلام المصرية داخل البلاد وخارجها” و”إقراض المشتغلين بالإنتاج السينمائي وضمانهم لدى جهات الائتمان وذلك لتمكينهم من توجيه إنتاجهم بما يتماشى مع السياسة التخطيطية للدولة”.
كانت صناعة السينما المصرية في أوج عصرها الذهبي في الخمسينيات، قوية اقتصاديا، توزع أفلامها وتعرض في كل دار عرض سينمائي وجدت في العالم العربي، وللحظات خاطفة بدا أيضا أنها قادرة على اختراق الحدود العربية مثلما فعلت السينمات الأمريكية والأوروبية والهندية واليابانية وغيرها. وربما كان ذلك ضمن الأهداف التي وضعها المسؤولون في ذهنهم وهم ينشأون مؤسسة دعم السينما، ولكن ما حدث على الأرض كان شيئا آخر: تعرضت الصناعة لحالة كساد اقتصادي بسبب الظروف العامة وعدم التوسع في إنشاء دور العرض لتناسب كم ما ينتج من أفلام وتراجع سوق التوزيع الخارجي بدلا من زيادة رقعته. وكلها أسباب تتعلق بالتخطيط الاقتصادي والتسويقي السليم الذي كان يحتاج لغرفة صناعة سينما قوية يتسم المسؤولون عنها بالعلم والنزاهة، وللأسف غلبت الطرق القديمة الارتجالية وتغليب المصالح الشخصية والتنافس الضيق بين صناع السينما، وسرعان ما بدأت الخسائر تتوالى والديون تتراكم وبعض الشركات ودور العرض أغلقت أبوابها. لكن الصناعة كانت لا تزال تعمل بقوة وكفاءة، ولعلها كانت تحتاج فقط إلى بعض التخطيط الاقتصادي الواعي وبعض التطوير التقني للأجهزة والاستديوهات والسماح بمزيد من مساحات التعبير والتجريب الفني.
لكن، وبعد خمس سنوات أخرى، في 1962، وعقب الإعلان عن تأسيس التنظيم الاشتراكي العربي وصدور القوانين الاشتراكية صدر قرار جمهوري بإدماج مؤسسة دعم السينما في المؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون، وبناء عليه قامت الدولة بإنشاء عدة شركات للإنتاج والتوزيع باعتبارها “امتدادا للقطاع الخاص” حسب نص القانون. لكن بعد أربع سنوات أخرى، في 1966 كانت الدولة قد قامت بتأميم معظم شركات القطاع الخاص كما حدث في مجالات اقتصادية أخرى، واكتملت سيطرة الدولة على السينما بصدور قرار جمهوري بإنشاء المؤسسة العامة للسينما وفصلها عن الإذاعة والتليفزيون ودمج شركات السينما في شركتين فقط واحدة للإنتاج وأخرى للتوزيع..
كل هذه القرارات والفك والدمج لم تفلح في السيطرة على الوضع الذي يزداد تأزما، ولا الخسائر التي تتضاعف، ولا الاختلاسات والأجور المغالى فيها وأوجه الإنفاق غير المحسوب، مع مزيد من اختفاء التخطيط والإدارة العلمية المنزهة عن الأغراض، وتفاقم الصراعات الشخصية والشللية بين الموظفين والسينمائيين على السواء.
مع هزيمة 1967 انهارت حوائط المبنى التي كانت بالكاد تتماسك، ولم يعد هناك مجال لمزيد من النهب والكذب. في منتصف 1968 أصدر مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية قرارا يهدف إلى “تقويم قطاع السينما وتصفية قطاعاته الخاسرة” تضمن تصفية كثير من الاستديوهات ودور العرض وبيعها للقطاع الخاص، واقتصار نشاط القطاع العام السينمائي على “إنتاج الأفلام الهادفة”. وكان هذا القرار بداية العودة للسير في الاتجاه العكسي وصولا إلى المحاكم والتحقيق في أسباب الخسائر وتفكيك القطاع العام وإهماله نهاية بقوانين الخصخصة التي كانت بمثابة إعلان الطلاق بين الدولة والسينما.
تفاصيل القصة كثيرة، وليس هدف هذا المقال استعراضها كلها أو تلخيصها، وإنما الإشارة فقط لبعض هذه التفاصيل التي تحتاج لدراسة اقتصادية وتحليل سياسي اجتماعي، وقبل كل شئ الإشارة إلى العنصر الغائب دوما، وهو وجود كيان علمي يدرس ويحلل ويخطط ويراقب ويضع الحلول للمشاكل قبل أن تتفاقم أو حتى قبل أن تظهر!
وهناك من التشابهات والاختلافات ما بين تجربة القطاع العام وما تفعله “الشركة المتحدة للإعلام” في مجال الدراما والإعلام، ما يستدعي أيضا التوقف عنده والمقارنة بين الاثنين لتحديد الفوارق بينهما، وتأمل مصير التجربة الماضية والتنبؤ بمصير التجربة الحالية.
ما يدور اليوم ليس تأميما بالمعنى العالمي الأصلي، ولا الناصري المصري، ولكنه بالتأكيد نوعا من قيام الدولة بامتلاك وسائل الإنتاج والتحكم في السوق بدرجة أو أخرى… يصفها البعض بالاحتكار، ولكنه ليس أيضا الاحتكار الاقتصادي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما ممارسات ومواقف تشير إلى قيام القوي، صاحب السلطة، بفرض إرادته وأولوياته، وأحيانا مصالحه، على بقية اللاعبين.
هذه الأنواع من “التأميم الجزئي” لها مشاكل نوعية مختلفة مرتبطة بنوع كل تأميم يجب وضعها في الحسبان مقدما.
عندما قام القطاع العام السينمائي في مصر في بداية الستينيات كانت الدولة قد وضعت على عاتقها محاربة البطالة والتكفل بتوظيف الخريجين، ولكن بعد التأميم تبين أنها فعلت العكس في صناعة السينما، حيث تعرضت عشرات الشركات وآلاف الناس للبطالة. انتشرت حالة من الاستياء المتزايد، خاصة أن الأعمال التي أنتجتها الدولة لم تكن تختلف ولا ترقى كثيرا عما ينتجه القطاع الخاص، مع استثناءات محدودة لا تشكل قاعدة، معظمها منيت بخسائر فادحة في شباك التذاكر، وعلينا أن نلاحظ أن الدولة وضعت هدفين متناقضين للقطاع العام: إنتاج أعمال موجهة سياسيا رفيعة فنيا، وتحقيق مكاسب تنقذ الصناعة من الخسائر التي تتعرض لها، وهما هدفان لا يمكن التوفيق بينهما.
وأمام الخسائر التي راحت تتوالى، وحالة الاستياء من جموع العاملين بالصناعة من البطالة أو منافسة الدولة لهم، قامت الدولة بتعديل المسار ووجهت القطاع العام نحو تشغيل أكبر عدد من الشركات والعاملين والتركيز على الكم لا الكيف، ولذلك نجد سنوات في تاريخ القطاع العام تعج بالأفلام قليلة التكلفة المتواضعة فنيا.
هذه بعض أمثلة على المشاكل التي ترتبط بالتأميم الجزئي، وبوضع الدولة نفسها كمنافس في السوق، وليس كموجه وحكم بينهم.
وهذا هو موضوع المقال القادم.
اقرأ أيضا
“المتحدة” في مفترق الطرق: خواطر حول المؤتمر الصحفي للشركة الأكبر
5 تعليقات