ثورة «طاها حسين» لتبسيط «العربية»
كانت قضية تبسيط قواعد النحو والكتابة بالعربية أحد أهم القضايا القديمة والمتجددة، وقد جرت محاولات عديدة في مجمع اللغة العربية وتبنى كثيرون دعوات تبسيط اللغة ودعا أحمد أمين في المجمع إلى أن تلائم الكتابة النطق، ولكن لم ينجح في إقناع أعضاء المجمع برأيه. ثم تولى الدكتور إبراهيم مصطفى هذه الدعوة وأيده الدكتور طه حسين ولكن المجمع أيضا لم يوافق، ومن قبلهما فشل منصور فهمي في إقناع أحد بتبني فكرته بأن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية وهي الدعوة التي رفع رايتها أيضا سلامة موسى الذي كتب عام 1956 في مجلة «آخر ساعة»: «أننا لن نستطيع القراءة الصحيحة للغتنا إلا بالحروف اللاتينية إذ هي تحوي 6 حركات في حين لا تزيد الحركات في حروفنا على 3 حركات والقول بوضع الشكل على الكلمات هو أمل لن يتحقق بل نرجو ألا يتحقق لأنه عناء في الكتابة كما هو جهد للعين والعقل وتبذير في الوقت».
إلى أن جاء دور طه حسين ليقوم بثورته في رسم حروف الكتابة باللغة العربية. وكانت البداية في 7 يونيو 1956 فظهرت جريدة الجمهورية بمانشيت رئيسي يقول: “طه حسين يقوم بانقلاب في رسم حروف الكتابة العربية“، ثم عنوان جانبي: «مصطفا أعطا موسا هاذا الكتاب.. طه حسين ينفذ الانقلاب غدا». وأوضحت الجريدة أن العميد «قد كتب مقالا ورسم حروف المقال على قاعدة جديدة تهدف إلى رسم الكلمات العربية كما ننطقها. فتلغى الألف المقصورة ونستبدل بها الألف الظاهرة في كل كلمة مثل “مصطفى” فتصبح “مصطفا” و”أعطى” فتصبح “أعطا” ونثبت حرف المد في جميع الكلمات التي جرى العرف على إغفال هذا الحرف في كتابتها.. “هذا” تصبح “هاذا” و”هؤلاء” تصبح “هاؤلاء”، وتلغى كل حرف لا تنطقه في الكلمة مثل حرف الألف الأخير في فعل كانوا فيصبح “كانو”.
وتتابع الجمهورية قائلة: «ولما انتهت المناقشات والبحوث إلى رفض إدخال أي تعديل على رسم الكلمات العربية، قرر طه حسين أن ينفذ اقتراحه عمليا ويبدأ بنفسه وينشر مقالاته بالرسم الجديد على جمهور القراء». وفي اليوم التالي على صفحات الجمهورية كان القراء على موعد مع مقال لطه حسين وفي مقدمة المقال هذا التنويه: «ليس في هذا المقال خطأ مطبعي والاختلاف مقصود». وأوضحت الجريدة: «تنشر الجمهورية هذا المقال كما أراده الدكتور طه حسين أن ينشر ومعنى ذلك أن المقال لا يحتوي على أي خطأ مطبعي وسنجد كلمة هذا مكتوبة هاذا وكلمة إلى مكتوبة إلا وكلمة لكن مكتوبة لاكن وكلمة على مكتوبة علا وجميع ما تنطقه ألفا تكتبه وأيضا قد تجد الألف التي لا تنطق في الأفعال المماثلة لفعل “كانوا” قد حذفت».
خصام في غير موضع
وبدأ طه حسين في كتابه مقاله الأول بهذه الطريقة الجديدة أو الثورة على الكتابة وكان المقال بعنوان «خصام في غير موضع» ولم يتناول في مقاله شيئا عن مبرراته عن هذه التجربة الجديدة وأسباب الكتابة بها، ولكن موضوع المقال كان عن تعليم الدين واللغة العربية والتاريخ المصري في المدارس الأجنبية والتي كانت لا تتبع في ذلك الوقت نظم التعليم المصرية، ووقع المقال بـ«طاها حسين» وكانت هذه المرة الأولى التي يوقع مقالاته بهذه الكيفية، لم يمر يوما على مقال العميد حتى جاء الرد من عباس العقاد في حوار أجراه معه محمد الفيتوري في «الجمهورية» وقد عارض العقاد أسلوب طه حسين معارضة شديدة واتهم الطريقة المقترحة بكتابة الكلمات كما ننطقها بأنها ستوجد إشكالات أكثر من التسهيلات التي ظن طه حسين أنها ستؤدي إليها، بل ستؤدي إلى إضعاف موقف لغتنا أمام اللغات الأجنبية وإلقاء بذور الفساد الأولى للقضاء على كيان هذه اللغة، ووجه العقاد سؤالا إلى طه حسين: افرض أنك كتبت جملة «فلان على الجبل» هكذا «فلان علا الجبل» فكيف نقرأ الجبل بعدها؟، وماذا يكون المعنى المحدد الذي تقصده من هذه الجملة؟، هل هو علا الجبل بمعنى أنه ارتفع؟، أو علا الجبل بمعنى أنك علوته؟، واختتم العقاد حديثه متهما طه حسين بأنه يريد التغيير فقط من أجل التغيير فقال: إن هدفنا دائما هو التغيير لمجرد التغيير فمثلا لو مشى واحد منا على يديه لصفقنا له ولأخذنا في تقليده، وهذا ما يمكن إطلاقه على هذه البدعة”، بعد يومين فقط من نشر تصريحات العقاد دخل رشدي صالح على الخط مدافعا عن طه حسين؛ ومهاجما العقاد بأنه لم يفهم محاولة العميد أو أنه فهمها من أضيق الزوايا لذلك تعثر في الخطأ وسارع برمي الطوب على هذا الموضوع كما ينبغي أن تقذف كل تجربة جديدة بالحجارة والشتائم وتساءل رشدي صالح: «لست أدري لماذا استحقت دعوة طه حسين أن يرجمها العقاد قبل أن يدرسها وبغير أن يتقدم هو بحل عملي لصعوبة الإملاء؟» وكانت مبررات صالح في الدفاع عن طه حسين هو أن تعديله يمتد إلى مشكلة الأمية كيف نمحوها؟، ويمتد إلى مشكلة إيجاد مستوى عام يسير تقترب فيه الكتابة من اللغة المنطوقة كل اقتراب ييسر على الناس.
ليست ثورة
ويدخل سامي داود ليكتب مقالا بعنوان «ثورة طاها» مدافعا عن طريقة طه حسين في الكتابة، ويرى أن طه حسين بلجوئه إلى هذه الوسيلة بالكتابة في الصحف إنما يعلن يأسه من إمكان إصلاح اللغة العربية عن طريق مجمع اللغة العربية وينقل بذلك القيادة من هذا المجمع إلى الشعب. إلى كل من يستطيع أن يقرأ الصحف بعد أن فشل في إقناع المجمع بهذا التبسيط النافع. كل هذه السجالات ولم يكن طه حسين قد تدخل ليكتب أسبابه ودوافعه لهذا الانقلاب في رسم حروف الكتابة وكان أول مقال كتبه لعرض أسبابه يوم 11 يونيو 1956 بعنوان «ليست ثورة وإنما هى دعاء إلا الثورة» ونشره بطبيعة الحال مكتوبا بطريقته الجديدة وقد نفى في بداية مقاله أنه أحدث ثورة بهذه الدعوة فقال: «لم أحدث ثورة في الكتابة العربية إلا الرجوع إلى القديم الذي عرفه الناس وقالوا به منذ قرون طوال».. مضيفا: «الذي أعلمه أن الثورة تجديد ومادمت لم أجدد شيئا فلم أحدث ثورة ومنذ قرون طوال قالت طائفة ضخمة من علماء العربية بأن الكتابة يجب أن تلائم النطق وكتب هؤلاء العلماء على النحو الذي رآه القراء منذ أيام».
ويشير طه حسين إلى ما حدث من استخدام النقط على الحروف التي لم تكن موجودة واستحداث الشكل لتستقيم قراءة القرآن الكريم في غير لحن. موضحا: «أن الطريقة السائدة في الكتابة بأنها أوضاع مقلوبة لا تلائم عقلا ولا طبعا ولا ذوقا ولا تؤدي إلى غاية». على أن أقسى هجوم تعرض له طه في هذه المعركة كان من بيرم التونسي الذي كتب مقالا يهزأ فيه من محاولة طه حسين بعنوان «الموسا والعيسا»، ويرى التونسي أن هدف طه حسين هو موالاة التخريب في بناء الكتابة العربية لننتهي إلى استعمال اللاتينية كما فعل الأتراك وعنئذ تنقطع الصلة بين المسلمين وكتبهم وقد ظل القرآن قرابة قرن بلا نقط حتى خيف على القرآن من ألسنة الأجانب فنقط الحجاج المصحف وأعقبه الخليل بن أحمد فوضع علامات الإعراب، ولم يبق بعد ذلك في الكتابة ما يوجب الشكوى إلى أن ظهر أصحاب النوايا الخبيثة».
ويتدخل توفيق الحكيم في هذه المعركة مفجرا قنبلة، حيث إنه طالب بإلغاء قواعد النحو برمته قائلا: إن أول ما نحتاج إليه هو إلغاء قواعد النحو فنقرأ الجريدة أو الكتاب مستخدمين التسكين في آخر الكلمات، ووصف اقتراح طه حسين بأنه غير هام ولا يمس جوهر المشكلة ودعا إلى حل صعوبة اللغة الفصحى بتبسيط تراكيبها والاستغناء عن حركات الإعراب، وطالب بإلغاء النحو لكي يفهمنا أبناء وطننا. وقد رفض طه حسين اقتراح الحكيم ونشبت بينهما معركة بسبب هذا الاقتراح الغريب. على أن أكثر من تنبأ بما سيحدث من محاولة طه حسين للكتابة كان كامل الشناوي حين كتب في يومياته معلقا على ما حدث: «إن طه حسين قد لا ينجح في هذه المحاولة وقد يعدل عنها، ولكن مما لا شك فيه أن هذه الدعوة يجب أن تتسع رقعة مناقشتها وأن ندافع عنها بحرية ونتقبل الآراء المفندة لها بحرية». وبالفعل لم تنجح محاولة طه حسين في الكتابة العربية وعدل عنها بعد فترة مكتفيا فقط بكتابة اسمه بنفس الطريقة «طاها حسين» ومع الأيام عدل أيضا عن كتابة اسمه بهذه الطريقة.
اقرأ أيضا