بين التحدي والإبداع.. رحلة «sol» أول فريق رقص معاصر في الصعيد

في قلب الصعيد، حيث تمثل العادات والتقاليد قيودا على الفنون، ظهر فريق «sol» للرقص المعاصر، كأول فريق من نوعه في محافظة المنيا، متحديا الحواجز ومعبرا عن شغف الفن وحب الحركة. يسعى الفريق إلى بناء شكل جديد للرقص المعاصر وإيجاد مساحة للإبداع في صعيد مصر.
تأسيس «sol» للرقص المعاصر
كيرلس ملاك، ابن مركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، طالب في الفرقة الرابعة بكلية العلوم بجامعة المنيا، وهو مؤسس فريق “sol” للرقص المعاصر. بدأ في ممارسة الرقص في سن الثانية عشرة، حيث تدرب في جمعية الجزويت بالمنيا على أيدي محترفين. توقف عن ممارسة هذا الفن خلال فترة جائحة كورونا، لكنه عاد بعد حصوله على الثانوية العامة ليواصل مسيرته. انضم إلى ورش تدريبية مختلفة في محافظتي القاهرة والمنيا، ولشدة شغفه ورغبته في أن يصبح محترفا، التحق بمدرسة الرقص المعاصر بالقاهرة لمدة عام، وهو ما أسفر عن مشاركته في ثلاثة عروض فنية.
وحول تأسيس “sol” يقول كيرلس: “أحلامي للرقص بلا حدود. كنت أخرج بعض العروض الفنية وأساعد في تدريب الأطفال في جمعية الجزويت. أحببت أن أنقل خبرتي في مجال الرقص المعاصر وأن أكون فريقا في المنيا. كان لدي رغبة في تعليم أشخاص جدد، خاصة أولئك الذين لم يسبق لهم الرقص المعاصر”. وتابع: ظهرت أمامي فرصة للمشاركة في البرنامج الثقافي الأوروبي المصري، الذي يدعمه الاتحاد الأوروبي واتحاد المعاهد الثقافية الأوروبية (يونيك). تقدمت بفكرتي لإنشاء مدرسة وفريق للرقص المعاصر في المنيا، ولاقت الفكرة إعجابا. قمت بالإعلان عن المشروع وعن ورش للتدريب.
يكمل حديثه: “تقدم للورش التدريبية عدد كبير من الشباب من الجنسين، وبدأت في تدريبهم أنا وبعض المدربين من القاهرة. من خلال الورش، اخترت أعضاء الفريق بناء على الجدية والالتزام بحضور الورش وحبهم للرقص المعاصر”.
ورش تدريبية
وهكذا تكون فريق “sol” الذي ليس لدى أعضائه الخبرة الكافية، لكن لديهم الشغف والموهبة، حتى وضعوا أقدامهم على أبواب الاحتراف. ومعنى sol هو النجم أو الشمس باللغة اللاتينية، ونشير من خلاله إلى الشيء الذي يلمع وسط الظلام أو العتمة، حيث إن وجود فريق للرقص المعاصر في إحدى محافظات الصعيد يعد شيئا مضيئا ولامعا.
يقول كيرلس: “يتكون الفريق من 8 شباب، تتراوح أعمارهم من 21 إلى 35 عاما، وأرى أن أول عروضنا لاقى استحسان الجميع، وكانت ردود الأفعال عليه مرضية لنا بشكل كبير. فقد بدأنا الدعاية على السوشيال ميديا من خلال فيديو قمت فيه بالرقص على كورنيش النيل في المنيا، للإعلان عن المشروع وفكرته، وهو ما كان له صدى كبير، فلم أكن أتوقع الإقبال على الورش بهذا الشكل. ثم أكملنا المشوار بالعرض الفني ” الجانب المظلم من الشمس”، الذي تم عرضه على مسرح جزويت المنيا، وعلى سطح المركز الثقافي الايطالي بالزمالك في القاهرة”.
الرقص المعاصر
الرقص المعاصر هو تطور لأشكال الحركة التي بدأت من الرقص الكلاسيكي “البالية”، ومن بعده الرقص الحديث. يكسر هذا النوع من الرقص الحواجز المتعارف عليها في البالية من أوضاع وشكل الجسم، وحتى الأسماء والتقنيات المتعارف عليها. كان الهدف من الرقص المعاصر أن يعبر الراقصون من خلاله عن مواضيع جديدة ومختلفة من خلال الحركة والرقص.
يرى “كيرلس” أن الرقص هو لغة يستطيع الجميع التحدث بها، ولا تحتاج إلى ترجمة، إذ أنها تتخطى الحواجز، فالجسد لا يستطيع الكذب. الحركات صادقة وتصل إلى الجمهور بسهولة، كما أن هناك طاقة تنطلق في الفراغ مثل الصوت.
ويضيف: الرقص وسيلة للتعبير عما بداخلنا من أفكار أو مشاكل. منذ صغري، وأنا أرى أنني أستطيع التعبير عن نفسي بالحركة أسهل من الكلام. لم أكن أهتم بما يقال من تهكمات أو سخرية أحيانا على ممارستي للرقص أو مناداتي بـ”رقاص”. كنت مؤمنا بما أفعله بكل حب. أرى أن الرقص يتأثر بالمجتمعات وما يحدث لها من نكسات أو حروب ومشاكل السياسية.
تجربة ممتعة
شهاب الشريف، أحد أعضاء الفريق من المنيا في الثلاثينات من العمر، يعمل مهندس بترول في منطقة رأس غارب. كان ضمن فرق المسرح المدرسي والمسرح الجامعي وفرق الثقافة الجماهيرية، وشارك في بعض الفرق المستقلة. بعد تخرجه، قرر التركيز على مستقبله المهني وأصبح يعمل في إحدى محطات البترول.
فور أن شاهد الإعلان الترويجي عن ورش الرقص المعاصر في المنيا، تحركت بداخله الرغبة في العودة إلى عالم الفن الذي يعشقه منذ صغره، وهو ما جعله يقدم في الورش التدريبية التي أعلن عنها كيرلس، وكان يأمل في الانضمام إليها. ويقول شهاب عن تلك التجربة: “كنت متابعا جيدا للعروض التي كان يقدمها كيرو، كما نناديه، كراقص متميز، وكنت مقدر جدا أنه لم يحدد للقبول في الورش أن يكون السن أقل من الثلاثين، وهو ما شجعني على التقديم وحضور الورش لاحقا”.
وتابع: أفادتني الورش كثيرًا. فقد منحتنا فرصة للتعرف على ما هو الفن المعاصر، كما أن الورش الخاصة بالحركة ساعدتنا كثيًرا في التعرف على أجسادنا والمشاكل التي قد نعاني منها أو لا نلاحظها. وبشكل شخصي، اكتشفت بعض المشاكل لدي وساعدتني الورش على علاجها، وأصبح اهتمامي بلياقتي البدنية أكثر انتظاما. كما أن ورش الوعي الجسدي وتفادي الإصابات أفادتني كثيرًا، فضلاً عن أهمية العمل معًا كفريق متجانس من خلال الحركات الجسدية. تم اختياري ضمن فريق sol، وهو ما كانت سعادتي به غامرة.
تحدي كبير
وحول التجربة يقول شهاب: “التجربة هي من أمتع التجارب في حياتي. الفريق مختلف، فهو يضم شبابا من الجنسين لديهم اهتمامات مختلفة، كما أنهم يدرسون في كليات ومدارس مختلفة أيضًا. ورغم مشاغلنا جميعا سواء للعمل أو الدراسة، إلا أن جميعنا واظب على حضور البروفات. وكان هذا هو التحدي الأكبر بالنسبة لي نظرًا لظروف عملي. في البداية، كان لدي تخوف بشأن قدرتي على أداء الحركات الراقصة بعد فترة طويلة من الابتعاد عن الرقص. لكن مع الورش والتدريبات، ظهر العرض النهائي على أكمل وجه.
وقد أظهر العرض تفاعلنا مع الموضوع بشكل جيد، حيث كان يتناول ما نواجهه من تحديات وضغوط متباينة عن طريق الأداء الحركي الراقص. كان العرض يصف “الجانب المظلم من الشمس”، وأن بداخلنا جميعا مشاعر متناقضة، وقد نقوم في بعض الأحيان بفعل شيء عكس ما بداخلنا، مثل الذهاب إلى عمل ما لمجرد الحصول على عائد مادي، أو دراسة شيء عكس ما نرغب فيه، وهكذا. وأعتقد أن الموضوع وصل إلى الجمهور بشكل سلس”.
تساؤلات وتحديات
“ها رقصت النهاردة؟” كان هذا السؤال يردده أصدقاء شهاب على مسامعه بصيغة سخرية وأحيانًا بقصد المزاح، حيث كان البعض يقصد أن شهاب يهدر وقته فيما لا يفيد، وأنه كمهندس لا يحق له ذلك.
يقول شهاب: “لم يكن الموضوع سهلًا، بل كان غريبًا، وكانت لدي تساؤلات كثيرة وتحديات. هل سأقوم بدعوة الأصدقاء؟ أم سأشعر بالخجل؟ لكنني اكتشفت أن المشاركة في فريق للرقص المعاصر يستحق خوض التجربة، لاسيما أنني مقتنع بما أقوم به من إبداع. ولأننا كنا نضع خلال العرض ماسكات، تشجعت أن أدعو أصدقائي القريبين مني كي يقولوا لي رأيهم بكل صدق دون مجاملات. تفاجأت برد فعل الأصدقاء والجمهور، فقد كان إيجابيا للغاية. والأهم تقديرهم لشجاعتي ودخولي هذه التجربة الجديدة، واكتشافي لقدرات جديدة بداخلي، والعمل ضمن فريق متعاون”.
ويضيف: “أتمنى أن يكمل فريق sol، الذي أصبحت جزءا منه، مسيرته. وسأكون معه سواء كراقص أو كمساعد للفريق في أي شيء. وأتمنى أن يكون هناك تكرار لهذا المشروع مع أشخاص آخرين يحصلوا على نفس الاستفادة، كما أتمنى وجود مدارس أخرى للرقص في محافظة المنيا”.
أحب الرقص جدا
جورجينا إيهاب، 21 عاما، طالبة بأكاديمية السادات، تتمتع بمواهب فنية متعددة مثل التمثيل والغناء والعزف على الجيتار. شاركت في العديد من العروض والفعاليات مع وزارة الشباب والرياضة في محافظة المنيا. كما أنها ضمن فريق “دوار الفنون”.
تقول عن مشاركتها في الفريق:” أحب الرقص جدا، لكني لم أرقص بشكل علني من قبل. وعندما علمت عن ورش الرقص المعاصر بالمنيا، تقدمت على الفور دون تردد. وبعد أن انضممت للورش، شعرت براحة داخلية غامرة. فقد كنت سعيدة للغاية، واكتشفت قدرات لم أكن أعلم عنها شيء في جسدي، ثم انضممت إلى الفريق من خلال الحركة تخرج مشاعر كثيرة بداخلنا، والرقص هو وسيلة لخروج تلك المشاعر وتلك الطاقة الكامنة”.
وحول التحديات التي واجهتها تقول جورجينا: “قمنا بالعرض لأول مرة في مقر الجزويت بالمنيا، ولأن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها جمهور المنيا فريقا للرقص المعاصر، كان هذا هو التحدي الأكبر. وبالطبع، خرج الكثير يسأل عن فكرة العرض ولم يفهموه جيدا. كانت هناك تعليقات وانتقادات تحمل بعض السخرية والتهكم، لكنني لا أقف عندها لأنني مؤمنة بما أعمل وسعيدة به. استمتعت جدا بالتجربة وأتمنى انتشارها، وسأستمر في طريقي بشكل احترافي.
نحن نحاول من خلال فريق sol نشر نوع جديد من الفن وثقافة جديدة على جمهور المنيا، يستطيع فهمها وتقديرها مثل الفنون الأخرى من تمثيل وغناء وغيرها. وأتمنى نشره في محافظات الصعيد المختلفة. هذا الفن عبارة عن تجسيد لمشاعرنا من خلال الحركة، وهو ما حاولنا إيصاله في العرض. نحن كنا نجسد طاقة النجوم، حيث إن طاقة النجم، بعد أن تمتلئ بالشحنات، تنفجر، وهو ما يحدث للبشر على اختلافاتهم”.
نحتاج للدعم المادي
أما عن استمرارية الفريق يقول كيرلس: “الآن ليس لدينا الموارد الكافية لإنتاج عروض أخرى، ونحن لا نزال في البداية. أنا أيضًا أحتاج الكثير من الدراسة والتمارين لإثقال موهبتي، وأتمنى فعلا تكملة مشوار فريق sol”.
واختتم حديثه: “لن أتخلى عن حلمي في تأسيس مدرسة للرقص المعاصر بالمنيا، والحفاظ على فريق sol كأول فريق للرقص المعاصر بعيدا عن مركزية القاهرة. نريد أن نتجاوز التحديات حتى لا تموت فكرتنا، وأن يكون هناك استمرارية لما بدأناه”.