ستات البلد| بنت من شبرا.. رحلة وداد متري المعلمة الرائدة
كانت وداد متري المعلمة والمناضلة ولا زالت مثالًا للمرأة المصرية التي تترك بصمتها على الحياة في شتى الظروف والمحن بمنتهى السلاسة والتلقائية والنجاح.
أول من قدمت برنامج تدريس في الصحافة المدرسية، وأول امرأة تُنتخب لعضوية اتحاد الطلاب في جامعة مصرية، وإحدى رموز الحركة الوطنية اليسارية والعمل النسائي، ومن أشد المناصرات للقضية الفلسطينية، وواحدة من أهم الرائدات اللاتي نزلن إلى الريف ليشجعن النساء على الانتخاب.
في سلسلة “ستات البلد” بالتعاون مع مؤسسة المرأة والذاكرة، نتذكر رحلة نضال هذه السيدة، التي لم تكن تصف نفسها على أنها ناشطة في مجال قضايا حقوق المرأة، ولكن كانت تعتبر أنها “قدمت مثالًا عمليًا على ما تمثله هذه القضايا”.
الصغيرة المسؤولة
ولدت وداد أنطوان متري في التاسع من أكتوبر عام 1927، من أسرة متوسطة بحي شبرا، لأم ربة منزل ولكنها مثقفة وشاعرة، وأب مهندس مدني، كانت طبيعة عمله تحتم عليه السفر كثيرًا لتنفيذ مشروعات في البلاد، وكان دائما ما يحمل وداد المسؤولية.
تقول وداد، في مقابلة مع مؤسسة المرأة والذاكرة، أجرتها الدكتورة هدى الصدة في منتصف التسعينات، عن أسرتها:
“إحنا كنا أسرة من الطبقة المتوسطة، والدي كان مهندس مباني ووالدتي ما كنتش بتعمل في الوقت ده، بس هي كانت ست متعلمة ومثقفة وكانت كمان شاعرة وإحنا 3 بنات ما عندناش أولاد. والدي كان معظم الشغل بتاعه عمليات ومشروعات في بلاد، فكان دايما يشعرني ويقولي انتي الراجل بتاع الأسرة. حسيت إن أنا من وأنا صغيرة مسؤولة. طبعا مش مسؤولة بشكل مباشر بس كان عندي الإحساس ده والحقيقة دي فضلت معايا لغاية ما كبرت. دايما عندي الإحساس بالمسؤولية”.
حصلت وداد على ليسانس الآداب قسم الفلسفة من جامعة فؤاد الأول “جامعة القاهرة حاليًا” عام 1952، ودبلوم معهد التحرير والصحافة والترجمة 1956، وأثناء دراستها للفلسفة في جامعة القاهرة، صارت أول امرأة تُنتخب لعضوية اتحاد الطلاب في جامعة مصرية، كما حصلت على دبلوم صحافة معادل لرسالة الماجستير، وفي نفس العام انضمت للجنة المرأة في المقاومة الشعبية، التي أسستها الرائدة النسوية سيزا نبراوي.
هنا تبدأ حياتها العملية والتي قضت منها 7 سنوات في التدريس، جاء تعيينها للعمل بالتدريس في مدرسة بمدينة ديروط في الصعيد، تقول:
“بس بعد ما اتخرجت تصوري شوفي قد إيه الظروف اتغيرت، بصيت لقيت نفسي متعينة في مدرسة ومن غير ما أقدم، معنى كده إنهم كانوا بيروحوا يشوفوا أسماء الخريجين ويعينوهم. أنا كنت أتمنى اشتغل في الإذاعة مثلًا، لكن بصيت لقيت نفسي متعينة في مدرسة في الصعيد اللي هي ديروط. فأنا قلت طب وأنا أروح شوية على ما أتعين في الإذاعة ورحت ديروط والصبح رايحة استلم ألاقي في جرنال تاني متعينة في بلد تانية في سوهاج”.
قضت وداد عامًا في الصعيد وكانت بالنسبة لها غربة شديدة خاصة وأنها لم تسافر قبل ذلك بعيدًا عن أهلها، ولكن كان الأمر عكس ما تصورت وأصبحت هذه السنة من أجمل ما يمكن بالنسبة لها، فحصلت منها على خبرة قوية ظهرت بعد أن انتقلت إلى شبين الكوم لتقضي 4 سنوات من التعيين هناك، فكانت فترة تواجدها هناك زاخرة بمختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية ووفرة الندوات.
وداد متري الناشطة
تتحدث وداد عن نشاطها في مدينة ومدرسة شبين الكوم الثانوية بنات، ومساعدتها للفتيات في التجارب العلمية المختلفة، بالإضافة إلى قيامها بتأسيس مركز خدمة عامة داخل المدرسة بهدف تسجيل أسماء السيدات في جداول الانتخاب، تقول:
“اشتغلنا في إن الستات يسجلوا أساميهم في جداول الانتخاب. عملنا مسح بيت بيت وشارع شارع وخليت البنات الكبار بتوعي يتعاونوا معايا، ومن ضمنهم وكانت أشطرهم شاهندة (مقلد) تيجي تقول لي يا أبلة وداد رحت مش عارفة كام بيت وعملت كام وسجلت كام والأمهات للمدرسات صحابنا اللي ساكنين في شبين برده سجلناهم وبعدها اتكتبت أخبار أن أكبر نسبة تسجيل سيدات كانت في محافظة المنوفية.”
تعرضت مصر للعدوان الثلاثي خلال فترة تواجدها بشبين الكوم، وذكرت كيف وفد عدد من المهاجرين إلى المدينة، وقيامها بجمع تبرعات وإيجاد مساكن لهم، بالإضافة إلى نشاطها التطوعي في الهلال الأحمر المصري، وتطوع العديد من الناس في الإسعاف والتمريض، بالإضافة إلى تدريب سلاح من قبل القوات المعنوية، التي قامت بتدريب المدرسات والطالبات على حمل السلاح.
كما تقول وداد:
“حاجتين مهمين قوي حصلوا في الفترة ديه: العدوان سنة 1956 وإن المرأة تأخذ حق الانتخاب والترشيح. من النقطتين دول كان فيه مجال لنشاط خرافي، هو طبعا عشان الواحد ينشط لازم يكون فيه مجال ويكون فيه مناسبة فاللي نفسه يعمل الحاجة يستغل الفرصة ويستغل المناسبة ديه… في العدوان كان فيه مهجرين وكل مدن القناة اتهجرت، فالبلد اللي أنا فيها جالها مهجرين كثير فإحنا بقينا نروح نلم تبرعات عشان المهجرين ونسكنهم ونعمل لهم إعاشة وبحوث اجتماعية عشان نراعي كل أسرة على حسب احتياجاتها…”.
المعلمة
لا يمكن الفصل بين دور وداد كناشطة وحياتها المهنية كمعلمة، ففي إطار عملها أولت اهتمامًا خاصًا للصحافة المدرسية، وأصبحت أول من يقدم برنامج تدريس في الصحافة المدرسية، وأصبحت عضو مجلس نقابة المعلمين 1976 لتفسح المجال أمام الطالبات للتفاعل مع القضايا الاجتماعية والسياسية الهامة، مثل ثورة الجزائر (في خمسينيات وستينيات القرن العشرين). تحدثت عن دعم مصر للجزائر أثناء الثورة الجزائرية، وعن نشاطها في المدارس مع طالباتها من خلال إقامة المؤتمرات والندوات، وإصدار مجلات حائط ومطبوعات وجمع تبرعات.
وكيف قامت كعضوة في لجنة الجزائر في مجلس السلام العالمي، هي وعضوات أخريات بضم الفتيات إلى عمل اللجنة وإصدار مجلات؟ توجت هذه الجهود بإقامة مظاهرة نسائية واسعة المدى من أجل إنقاذ جميلة بو حريد، التي حكم عليها بالإعدام، وقادت سيزا نبراوي المظاهرة، واشتركت فيها إنجي أفلاطون وراهبات وطالبات المدارس ومختلف الطوائف الشعبية.
وراء القضبان
تمثل فترة السجن مرحلة أخرى في حياة وداد متري، ففي عام 1959 ألقي القبض عليها أثناء عملها في مدرسة التوفيقية القبطية بالقاهرة بسبب نشاطها في الحزب الشيوعي، لتقضي في السجن خمسة أشهر، لم تستطع فيهم أن تتخلي عن وداد الناشطة فأنشأت في محبسها فصولًا لمحو أمية النساء المحكوم عليهن بالسجن المؤبد.
وبعد الإفراج عنها مٌنعت من التدريس، مما اضطرها إلى العمل في العلاقات العامة، فقامت بتأسيس مجلة وتمكنت من الذهاب إلى مختلف مدارس المنطقة لرصد الأخبار، رغم أنها كانت ممنوعة من ذلك.
“بعد خروجي من السجن لم أفلح في مواصلة العمل من خلال الحزب. لكني لم أكف عن النشاط من خلال العمل الوظيفي ومن خلال الجمعيات والمؤسسات التي أنتمي إليها ومن خلال نقابة المعلمين”.
تعرضت وداد متري لمضايقات عديدة في نقابة المعلمين نظرًا لتبنيها مطالب المعلمين وتمتعها بشعبية عالية، واكتساحها الدائم في الانتخابات، إلا أن انضمامها للاتحاد الاشتراكي تسبب في فصلها من النقابة نظرًا لعدم تقلد أي مفصول لموقع قيادي بداخل النقابة.
عادت لتنخرط في الانتخابات مرة أخري، وفي تلك المرة تم فصلها من عملها، ولكنها نجحت في انتخابات الاتحاد الاشتراكي قبل فصلها، وحازت على منصب الأمينة المساعدة الخاصة بالوحدة.
من خلال دورها في الاتحاد الاشتراكي، نظمت دورات وقدمت دعم للمقاومة الفلسطينية وقامت بجلب فدائيين في هذه الدورات والندوات، هذه الأنشطة أدت إلى تعرضها إلى مضايقات نظرًا لنجاحها الجماهيري، إلى أن اعتزلت عقب المعاش، ولكن استمر عملها العام من خلال الندوات والمؤتمرات والجمعيات.
التوثيق
اهتمت وداد بالتوثيق الدقيق لحياتها، حيث كانت تحرص على الاحتفاظ بسجلات مفصلة لأسفارها كناشطة ولرحلاتها مع زوجها، سعد لوقا، ورغم عضويتها في العديد من المجموعات النسائية، لم تكن وداد تصف نفسها على أنها ناشطة في مجال قضايا حقوق المرأة، ولكن كانت تعتبر أنها “قدمت مثالًا عمليًا على ما تمثله هذه القضايا”.
توفت وداد في 18 يناير 2007 وقد أهدت مجموعتها الخاصة والتي تحتوي على الصور والمقالات والقصاصات الصحفية ومجلات حائط وكل ما قامت بتوثيقه لمؤسسة المرأة والذاكرة قبل وفاتها في عام 2006.
9 تعليقات