بعد غلق «الوكالة الأمريكية للتنمية».. ما تأثير القرار على التراث المصري؟

أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتعليق جميع مدفوعات المساعدات الخارجية لمدة 90 يوما تساؤلات عديدة حول مصير العديد من المشروعات الحيوية في العالم، بما في ذلك المشروعات التراثية في مصر. فمع تاريخ طويل من التعاون بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، خاصة في مجال الحفاظ على التراث الثقافي، أصبح مصير العديد من المواقع الأثرية مهددا، فما هي تبعات هذا القرار؟

موقع الوكالة 

من خلال تصفح الموقع الإلكتروني لوكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID)، يظهر في بداية البحث قرار إداري صادر عن مكتب المفتش العام للوكالة بعنوان «إشعار إجازة إدارية»، جاء فيه أنه اعتبارًا من الساعة 11:59 مساءً بتوقيت شرق الولايات المتحدة، يوم الأحد الموافق 23 فبراير 2025، سيتم وضع جميع الموظفين المعينين مباشرة في الوكالة في إجازة إدارية على مستوى العالم، باستثناء الموظفين المعينين المسؤولين عن المهام بالغة الأهمية، والقيادة الأساسية.

كما يشير القرار إلى أن الوكالة الأمريكية بدأت بالفعل تنفيذ عملية تخفيض القوة العاملة، والتي ستؤثر على نحو 1600 موظف في الوكالة من العاملين في الولايات المتحدة. أما بالنسبة للموظفين العاملين في الخارج، فقد أوضحت الوكالة أنها تعتزم تنفيذ برنامج عودة طوعي ممول من الوكالة ومزايا أخرى. وتؤكد الوكالة التزامها بالحفاظ على سلامة موظفيها في الخارج. وحتى عودتهم إلى الوطن (الولايات المتحدة الأمريكية)، سيحتفظ الموظفون بإمكانية الوصول إلى أنظمة الوكالة والموارد الدبلوماسية وغيرها.

وقد كان لتلك القرارات تأثير واضح على مجال التراث داخل مصر، فخلال الثلاثين عامًا الأخيرة، استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 140 مليون دولار في جهود الحفاظ على التراث الثقافي في مصر، خُصص أكثر من نصفها من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي ساهمت بأكثر من 75 مليون دولار في محافظات مثل سوهاج والأقصر وغيرها من المدن المصرية. كما خصصت حكومة الولايات المتحدة أكثر من 3.5 مليون دولار من خلال “صندوق السفراء للحفاظ على التراث الثقافي AFCP” لـ17 مشروعًا في مصر، بما في ذلك مشروعا ترميم جاريان حاليا، وهما: تكية إبراهيم الجلشاني وضريح السلطان الأشرف قايتباي.

مشروعات تم إنجازها

طوال هذه السنوات، أنجزت الوكالة العديد من المشروعات التي هدفت إلى حماية العديد من المواقع الأثرية في البلاد من مشكلة ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وهي مشكلة تهدد العديد من المواقع مثل: تمثال أبو الهول، ومعبد الكرنك، وباب زويلة، وكوم أمبو في أسوان، ومنطقة كوم الشقافة في الإسكندرية.

ومن أبرز المشروعات التي دعمتها الوكالة أيضًا مشروع إعادة اكتشاف أصول إسنا التراثية الثقافية، والذي بدأ عام 2016 وانتهى في نوفمبر 2020، بقيمة تقديرية بلغت نحو 2.5 مليون دولار. كما دعمت الوكالة جهود ترميم واستعادة القطاع الغربي من مدينة هابو غرب الأقصر، والذي كان مهملاً لفترة طويلة، بهدف زيادة الاهتمام السياحي بمجمع المعابد هناك. وشملت أعمال التطوير تمهيد الممشى السياحي وإقامة منطقة متحف مفتوح ،بتكلفة تقديرية تبلغ حوالي 6 ملايين دولار.

دعم التراث

في سبتمبر من العام الماضي، تم توقيع اتفاقية مشروع “الإدارة المتكاملة للسياحة الثقافية IMCT”، الذي يهدف إلى تطوير المواقع الأثرية وتجربة الزائر فيها، بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. يسعى المشروع إلى مواكبة الاتجاهات العالمية نحو تنشيط السياحة التجريبية والأصلية، مع التركيز على القاهرة التاريخية والأقصر، كما يؤسس لمنهج استدامة إدارة السياحة الثقافية ويعزز مكانة مصر استراتيجيا لسنوات قادمة.

ويستهدف المشروع أربع نطاقات داخل حدود القاهرة التاريخية، لتأهيل وإعادة توظيف المواقع الأثرية فيها، وهي: منطقة الحطابة، ودرب اللبانة، ومنطقة باب زويلة، وسوق السلاح.

مباني أثرية مهددة

نتيجة للقرارات الأمريكية الأخيرة، باتت مجموعة من المباني الأثرية والمواقع مهددة بتوقف كافة أعمال الترميم فيها، ومنها:

  • تكية الجلشني

شيدها الشيخ إبراهيم بن محمد بن شهاب، الملقب بالجلشني، أحد شيوخ الصوفية، الذي أسس الطريقة الخلوتية الجلشنية. بدأ في إنشاء التكية عام 926 هـ/1519م، كما يؤكده النص التأسيسي. وتتكون التكية من قبة دفن بها الشيخ الجلشني، وتكية لأتباع طريقته تحيط بالقبة، ومسجد للصلاة، كما ألحق بها سكن له ومطبخ وحمام.

  • زاوية فرج بن برقوق

أنشأ الزاوية في البداية الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، وأطلق عليها بين الناس اسم “زاوية الدهيشة”. لما تتميز به من زخارف معمارية غاية في الروعة تدهش من يراها. وتتكون من مصلى يتكون من إيوانين ودُور قاعة وسبيل يعلوه كتاب.

  • سبيل وكتاب حسن أغا كوكليان

أنشأه الأمير حسن أغا كوكليان، أحد أفراد الفرق السبع بالجيش العثماني. يعلو السبيل كتاب ذو شباكين للتسبيل، بواجهتين على الشارع بينهما عمود ناصية مدمج. يتكون السبيل من الداخل من حجرة مربعة تضم شباكي التسبيل. ويأخذ السبيل نفس شكل حجرة التسبيل، ويشرف على الشارع بواجهتين، في كل منهما بائكة من عقدين.

  • سبيل رقية دودو

شيدته السيدة بدوية بنت شاهين، على روح ابنتها المرحومة رقيه دودو عام 1174هـ. ويعد السبيل بواجهة مقوسة، ويتكون من حجرة مستطيلة في ثلاثة أضلاع، أما الضلع الرابع فيأخذ شكل قوس، حيث فتح به ثلاث دخلات معقودة استغلت كشبابيك للتسبيل، ويجاورها يمينا مدخل معقود يؤدى إلى السبيل والكتاب.

  • سبيل مصطفى سنان

أنشأه محمد أغا ومصطفى سنان باش زاده عام 1040هـ/ 1630م. ويقع السبيل في شارع سوق السلاح بحي وسط القاهرة. وهو سبيل مستقل، له حجرة تسبيل مستطيلة بها شباكين لتسبيل ماء الشرب للمارة، أحدهما يتوسط واجهة السبيل المطلة على شارع سوق السلاح، وتوجد إلى يمينه فتحة تزويد الصهريج بالماء. أما الشباك الثاني، فيتوسط الواجهة المطلة على حارة الشماشرجي، ويجاوره باب الدخول إلى المنشأة.

كما يعد أول سبيل عثماني قاهري يحتوي على مُصلي ملحقة بحجرة التسبيل، به محراب بسيط مجوّف يواجه مدخل السبيل مباشرة. ويعلو الواجهة الجنوبية الشرقية للسبيل النص التأسيسي.

  • بوابة منجك السلحدار

أنشأ البوابة الأمير سيف الدين منجك السلحدار، أحد السلاحدارية في مصر في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 748 هـ / 1347م. كانت هذه البوابة مدخلا لقصر الأمير منجك السلحدار، إلا أن القصر اندثر، ولم يبق منه سوى البوابة، التي تتكون من عقد نصف دائري تتزين كوشتاه برنك السلحدار (دائرة وبداخلها سيف).

  • بيمارستان المؤيد شيخ

شيد السلطان المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي، الجركسي الأصل، البيمارستان الذي خصص لعلاج المرضى بالمجان، وذلك بين عامي 821-823 هـ /1418-1420م. وللبيمارستان واجهة ضخمة يتوسطها مدخل يتوجه بعقد ثلاثي محمول على مقرنصات، وتزخر الواجهة والمدخل بالزخارف المتقنة. ويتكون من إيوانين ودُور قاعة، وملحق به سبيل يعلوه كتاب.

  • تكية تقي الدين البسطامي

أنشأ التكية السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وخصصها لفقراء الأعاجم قبل عام 1320م. ثم نالت في عصر دولة المماليك البرجية عناية السلطان الظاهر أبو سعيد حقمق، الذي بنى الباب الحالي لها عام 1443م، وأكملها ابنة المنصور عثمان بن حقمق.

وتتكون التكية من مصلى يدخل إليه من باب معقود، ومساحة وسطى بها المحراب، وعلى جانبي تلك المساحة إيوانان يحيط بهما حجرات خصصت لسكن فقراء الأعاجم. كما تضم التكية أيضًا قبر الشيخ تقي الدين البسطامي.

  • الهوية البصرية لإسنا

خلال السنوات الأخيرة، ضخت الوكالة الأمريكية الملايين من الجنيهات في مشروع اكتشاف تراث إسنا الثقافي. وقد اهتم المشروع بإعادة اكتشاف المدينة وإطلاق الإمكانات التراثية المتنوعة، بهدف وضعها على الخريطة السياحية لمصر.

ورغم انتهاء المشروع، إلا أن مخرجاته لم تكتمل بعد، حيث أطلقت محافظة الأقصر مؤخرا، بالتعاون مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، مشروع “الهوية البصرية للمدينة”، الذي يهدف إلى الاستثمار المستدام. لكن، ومع توقف عمل الوكالة، يبدو أن الشراكات بينها وبين الحكومة بشأن منطقة إسنا قد انتهت تمامًا.

تخوفات

يرى المهندس الاستشاري والمرمم نادر علي أن تأثير إغلاق الوكالة على التراث داخل مصر ليس كبيرًا مقارنة بالمجالات الأخرى المتعلقة بالتنمية والبنية التحتية.

يقول: «بصفة عامة، سيؤثر هذا القرار كثيرًا على كافة المجالات. لأنه قرار سياسي في المقام الأول يهدف إلى معاقبة الدول. وهو شبيه بقرار فرض التعريفات الجمركية الذي اتخذته الحكومة الأمريكية. الأمر الثاني أن أوروبا غالبا ما تتبع الولايات المتحدة. وبالتالي أتوقع أن تتخذ خطوات مشابهة في مجال الحفاظ على التراث وترميمه. صحيح أن الحكومات الأوروبية لم تتخذ موقفًا حتى الآن، لكني أتوقع إعادة النظر في تمويل هذه المشروعات في المستقبل القريب. وهذه هي المشكلة لأن الأوربيين ممكن أن يتبنوا النهج ذاته، مما سيؤثر بشكل كبير على ترميم الآثار».

أما الدكتور صالح لمعي، استشاري الترميم والحفاظ وأستاذ الآثار الإسلامية، فيرى أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يخص أمريكا وحدها. يقول: “القرار الأمريكي سيؤثر على المعونات التي تعمل على توزعيها العديد من المؤسسات في العالم، ولن يقتصر تأثيره  على التراث وحده، بل سيمتد إلى المؤسسات المعنية بعلاج الإنسان والحيوان. لكن في النهاية، لا يمكن لأحد أن يلوم الولايات المتحدة، لأنهم أحرار في صرف أموالهم”.

ويتابع لمعي: “بشكل شخصي، لا أرى أن القرار سيضر بالتراث المصري بشكل كبير، فهناك عشرات البعثات الأجنبية الممولة من المعاهد والسفارات الأجنبية، والأمريكيون لا يقارن حجم نشاطهم داخل مصر بحجم نشاط المعاهد الأجنبية الأخرى. كما لا أتوقع أن يتبنى الاتحاد الأوروبي النهج نفسه، وأظن أن المنح الأوروبية الموجهة للتراث والآثار ستستمر خلال الفترة المقبلة”.

تفكيك الوكالة الأمريكية

في مقال نشره مؤخرًا ويليام كاروثروز، المحاضر في التراث بجامعة إسكس، بعنوان: «ماذا يعني تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للتراث العالمي؟» يطرح ويليام سؤالًا: هل لا تزال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID موجودة بالنسبة لعالم التراث؟

يعزي وليام نفسه والملايين من الناس في مقاله، ويقول: «بالنسبة لأي شخص اعتاد على رؤية شعار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على اللوحات الإعلانية الموضوعة على مواقع التراث حول العالم. فإن الآثار -وإن كانت أقل كارثية- إلا أنها واضحة للعيان. فقد ارتبطت الوكالة بمبادرات إعادة الإعمار، وإنقاذ المواقع المهددة بسبب الكوارث. كما حدث في البندقية وفلورنسا عام 1966، إلى جانب المشاريع التحديثية وإنقاذ التراث. وهذا ما حدث مثلًا خلال الحملة الدولية لليونسكو لإنقاذ آثار النوبة، التي جذبت مجموعة متنوعة من المانحين الدوليين. بما في ذلك الولايات المتحدة، بسبب بناء مصر للسد العالي في أسوان خلال الستينيات».

وضع صعب

يتفق وليام مع ما طرحه نادر علي بشأن إمكانية أن يدفع قرار ترامب الأخير الحكومات الأوروبية إلى اتباع النهج ذاته، ولكن بصورة مختلفة. يقول: «ترامب يرى أن الأموال التي كانت تدفعها الوكالة لم تكن تصرف في محلها. بينما تعيش أوروبا، من جانب آخر، وضعا صعبا نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية. فهناك حاليا إعادة توجيه للإنفاق الحكومي الأوروبي وغيره نحو الدفاع ضد روسيا. لذلك، فإن احتمالية استمرار مستويات التمويل التنموي لمشاريع التراث تبدو منخفضة. ما لم يكن من الممكن ربط هذه المشاريع بأعمال البنية التحتية لصناعة الدفاع العالمية».

ويستطرد: «في عام 2023، منحت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أموالًا لما أُطلق عليه مشروع «السياحة الثقافية الثاني». والذي تضمن بناء مخزن جديد في معبد الكرنك بالأقصر، و«تطوير البنية التحتية للزوار» داخل موقع أبيدوس الأثري في صعيد مصر (انتهى المشروع في سبتمبر 2024). فمثل هذه المشاريع توظف العديد من الأشخاص وتجعلهم جزءً من الاقتصاد المحلي. لذلك فإن سحب هذه الأموال فجأة أمر كارثي محتمل. ففي أواخر عام 2024، عقدت وزارة الخارجية شراكة مع مركز البحوث الأمريكي في مصر لإطلاق نظام فهرسة مركزي لمتاحف مصر».

تراث مهدد

ويكمل: «بغض النظر عن الرأي في هذه الأعمال ومبادرات التراث المجتمعي. فإن غياب هذا التمويل سيجعلنا نفقد مشاريع مهمة كانت موجهة لحفظ التراث المجتمعي، وكان من الممكن تصورها بطرق جديدة ومختلفة وأكثر إنتاجية. كما أن ذلك، في نهاية المطاف، يعني مال مفقود لأفراد كانوا في أمس الحاجة إليه. لذلك فتمويل التنمية الثقافية سيتضاءل، ومن المنطقي هنا الافتراض أن بعض الفقراء المعدمين سيصبحون أسوأ حالًا مما هم عليه بالفعل. حتى إن تدخلت دول أخرى لسد فجوة التمويل هذه لأغراضها الجيوسياسية الخاصة.

ستحتاج العديد من هيئات التراث، في غضون ذلك، إلى التفكير بعناية في الفراغ المالي الذي سيتركه فقدان هذا التمويل، كما ستحتاج إلى التوصل إلى فهم جديد لأولوياتها. فبقدر ما أصبح الوضع الراهن غير مستدام، فإن تحديد تلك الأولويات لن يكون سهلًا».

اقرأ أيضا:

تدمير الحدائق العامة وإهدار التراث.. لماذا يدفع المصريون ثمن التطوير العشوائي؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.