«المحافظ» يكشف مصير جبانات القاهرة: الهدم والنقل

بعد هدم عشرات المقابر وتسويته بالأرض، وانتهاك النسيج العمراني لجبانات القاهرة، أطل علينا محافظ القاهرة الدكتور إبراهيم صابر، في تسجيل مصور مؤخرًا، للحديث عن ما يجري في جبانات القاهرة والمصير المنتظر لها، فجاء كاشفًا بأكثر مما يجب لنوايا الحكومة التي تستهدف جبانات المدينة الألفية بالحذف والهدم، حديثه الذي لم يتجاوز بضع دقائق تضمن الكثير من المعلومات عن مخططات حكومية التي تستهدف الجبانات بشكل مباشر لتجعلها أثر بعد عين خلال سنوات قليلة، مع استمرار عمليات الهدم والاستباحة للمقابر التاريخية التي ترفض الحكومة الاعتراف بما تمثله من تراث مصري لا يقدر بثمن، ويجب التعامل معه بكل حرص للحفاظ على مكوناته.

التسجيل المصور بثه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، قبل أيام قليلة، لكنه عاد وحذفه في تصرف أثار الكثير من التكهنات حول أسباب نشر الفيديو ثم حذفه للمسؤول الحكومي، خصوصا أنه تم نشر نسخة من فيديو مدتها ثلاث دقائق و32 ثانية، ثم نشر بعدها نسخة أخرى أطول مدتها أربع دقائق و57 ثانية، قبل أن يتم حذفهما معا، فعلى ما يبدو أن ما جاء في الفيديو من تصريحات محافظ القاهرة لم يعجب جهات ما، فأفضى الأمر إلى حذف الفيديو بنسختيه، فهناك من أدرك أن الفيديو على قصره يكشف أكثر مما يجب، ويرسل رسالة تؤكد التهم التي تلاحق الحكومة بتعمد التعدي على المقابر التاريخية دون أي التزام بمعايير تحافظ على تراث يخص جميع المصريين.

***

المحافظ ظهر وخلفه منطقة ممتدة لا يشغلها إلا رمل أصفر، بعد أن تم تعبيد المنطقة التي كانت يومًا تعرف باسم ترب سيدي جلال، وهي المقابر التي تم إزالتها بالكامل العام الماضي، وبدا المحافظ وكأنه فاتح يقف على أطلال مدينة مفتوحة تم محو معالمها، ليتحدث عن مسار محور مروري سيمر فوق المقابر التي تم هدمها، ويبشر بحدوث انفراجة مرورية بعد إنشاء المحور المروري، المدهش أن الفيديو تضمن لقطات مصورة بمسيرات تابعة للحكومة، كشفت لنا لأول مرة عن حجم الإزالات الضخمة التي تعرضت لها المقابر خصوصا منطقة سيدي جلال، التي فقدت المساحة الممتدة من مداخل شارع الإمام الشافعي حتى قبر جلال الدين السيوطي والمنشآت المملوكية الأثرية المحيطة به، أي أن الفيديو شهادة إدانة صريحة للحكومة والجهات المسؤولة عن هذه المهزلة.

يتضح من خلال الفيديو/ الوثيقة أن الجزء الأكبر من مساحة المقابر تم حذفه بهدوء وصمت، وأن الأعمال جارية لإزالة مقابر أخرى مع استمرار أعمال إنشاء المحور المروري الجديد، وسط كل هذه المشاهد بدا محافظ القاهرة غير مهتما بمصير المقابر والتاريخ والتراث، بقدر اهتمامه بتحقيق السيولة المرورية! فكرس حديثه عن إزالة كوبري السيدة عائشة كجزء من إعادة تخطيط الميدان وإنشاء محور صلاح سالم البديل، الذي سيشق منطقة الجبانات المعروفة تاريخيا باسم القرافة الصغرى والتي يعود تاريخ البناء فيها إلى أكثر من ألف عام، وبسبب هذا المشروع تمت إزالة مئات المقابر، البعض منها يخضع لتوصيف التاريخي والتراثي، كما أن أعمال الهدم دمرت نسيج جبانات القاهرة في منطقة الشافعي والسيدة نفيسة وسيدي جلال إلى الأبد، وأدت أعمال الهدم لتحويل الجبانات من كتلة صلبة مترابطة الأجزاء في تناغم تاريخي، إلى شرائح منفصلة من المقابر يحيط بها مجموعة من الطرق السريعة وهو ما يحدث حاليًا.

***

وفي مقابلة أحاديث حكومية رسمية لتهدئة الرأي العام، كشف محافظ القاهرة عن حقيقة ما سيجري للمقابر، وتحدث صراحة عن التصور الذي ستنتهجه الحكومة في التعامل مع المقابر مستقبلا لاستكمال مشروع المحور المروري، إذ قال إن هناك “رؤية جديدة” للتعامل مع المقابر التراثية والأثرية أو ذات طراز معماري، وتابع: “سيكون هناك عملية فك وإعادة نقل وتركيب لهذه المقابر الأثرية بالتنسيق مع وزارة الآثار والجهاز القومي للتنسيق الحضاري والمتخصصين، وبتنفيذ شركة المقاولين العرب فرع صيانة القصور، لما لها من خبرة كبيرة جدا في هذا الموضوع”، هذا طبعا دون أن ينسى التأكيد على أنه سيتم الحفاظ على المقابر أثناء تنفيذ المشروع، لكن هذا الكلام جاء متأخرًا جدا بعد إزالة العديد من المقابر التاريخية!

***

ولأول مرة يتحدث مسؤول رسمي عن مشروع مقبرة الخالدين بشكل واضح، إذ قال محافظ القاهرة إن الرؤية الرسمية خلال هذه الفترة، “إنه لو فيه أي مقبرة هتقابلنا في المسار، سيتم التعامل معها بمنتهى الحرص، وسيتم إعادة فكها وتركيبها في موقع آخر، وهناك موقع مخصص لهذا المكان هي مقبرة الخالدين، ودي مقبرة يتم تنفيذها الهيئة الهندسية تقوم على تنفيذها، برده في نفس المنطقة، وبيتم فك هذه المقابر وإعادة تركيبها مرة أخرى بطريقة فنية حرفية بمعرفة الآثار والثقافة والمتخصصين في هذا الموضوع”، وأكد أن هناك أربع مقابر فقط في مسار مشروع صلاح سالم البديل، وأنه سيتم التعامل معها من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها في مقبرة الخالدين خلال الفترة المقبلة، لتكون متحف مفتوح لكل الناس!

حديث محافظ القاهرة المحذوف يقع في تعارض صريح ومباشر مع تصريحات الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، الذي أعلن في نهاية أكتوبر الماضي، عن صدور التكليف الفوري بالتوقف عن هدم مقابر الإمام الشافعي، والتأكيد على احترام الدولة المصرية للمباني ذات القيمة التاريخية، وشدد على أن “الدولة حريصة على حماية تراثها، وأي إجراء تجاوزي حدث في مقابر الشافعية لن يتكرر مرة أخرى الفترة المقبلة، واعترف بالخطأ قائلا: “حدثت مشكلة، وتم التكليف الفوري لكل الوزارات المعنية بإيقاف فوري لهذا الموضوع، والتأكيد على احترام المباني ذات القيمة الموجودة، بألا يتم المساس بأي مبنى ذو قيمة بالمنطقة”.

***

الجملة الأخيرة لرئيس الوزراء بعدم المساس “بأي مبنى ذو قيمة بالمنطقة”، تتعارض مع ما جاء من تصريحات محافظ القاهرة الأخيرة، الذي بدا أكثر صراحة وبعدا عن الدبلوماسية من رئيس الحكومة، فما جاء على لسانه يؤكد ان الاستراتيجية الحكومية قد اعتمدت مبدأ الإزالة والهدم في المقام الأول لجبانات القاهرة، مع نقل ما تراه كعينات من التراث الهائل من المقابر إلى مقبرة الخالدين التي لم يعرف بعد ما إذا ما كانت مبنى سيضم شواهد القبور فقط، ما يعني هدم الأحواش والمباني ذات الطراز المميز كما هو حال قبة نام شاذ قادين التي أثار هدمها موجة من ردود الفعل الشعبية الغاضبة، أم أن مقبرة الخالدين ستكون مساحة لفك مباني الأضرحة بكل ما فيها؟ الإجابة التي ترشح من حديث محافظ القاهرة أن مقبرة الخالدين ستكون العنوان الأبرز لنهاية جبانات القاهرة، والمكان الذي تلقى فيه شواهد القبور بعد قلعها من جذورها وطمس علاقتها المكانية.

على كل حال، جاء حديث محافظ القاهرة ليضعنا أمام واقع قبيح وشديد القسوة ومستقبل مظلم ينتظر جبانات القاهرة بكل ما تحمله من طبقات تاريخية، فالاستراتيجية الحكومية وضعت موضع التنفيذ، وهي هدم المقابر والاستمرار في مشروع المحور المروري مع إنشاء مقبرة الخالدين، لتكون المكان الذي توضع فيه شواهد المقابر التي ستهدم حال ما أثار هدمها أي ردود فعل غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي، أما الحفاظ على نسيج الجبانات التاريخي والعمراني المسكون بطبقات تاريخية تتجاوز الأربعة عشر قرنا فلا محل لها ولا عنوان أمام التعامل مع مدينة تاريخية عظيمة مثل القاهرة بمنطق مقاول الهدم، فلا أحد ضد التطوير والتحديث والاستثمار وكلها في مفارقة يمكن تحقيقها من خلال الحفاظ على الجبانات كبداية والاستثمار فيها، ولكن عقول الرجال تضيق.

اقرا أيضا:

جبانات مصر التاريخية هي «مزار الخالدين»

سوق محطة مصر.. معلم تاريخي أعدمه البلدوزر

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر