«القاهرة» عاصمة الطعام الجاهز قبل العصر الحديث
لا يكاد شارع في مدينة القاهرة يخلو من موجود مطعم يقدم ما لذ وطاب على مدار الساعة، لذا قليلا ما يشغل أهل مدينة مصر بالهم بالطعام، فالمطاعم وفيرة وهي تفتح أبوابها ليلا وصباحا. لكن هذه الظاهرة المصرية بامتياز لا تبدو حديثة ولا مستعارة من ظاهرة محلات الأكل الجاهز التي ظهرت في العصر الحديث مع ارتقاء الرأسمالية وخلق طبقة من العمال والموظفين الذين تجبرهم ظروف أعمالهم على الأكل خارج المنزل. فالظاهرة التي نراها في شوارع القاهرة اليوم، هي بنت ظاهرة قديمة عرفتها شوارع المعزية منذ قرون طويلة وسحرت العديد من الرحالة الذين زاروا المدينة.
القاهرة في العصور ما قبل الحديثة مدينة غريبة ساحرة، تفردت بأمور توقف عندها الرحالة بانبهار كامل. كان من أهم تلك الظواهر التي أخذت بألباب الرحالة المسلمين والأوروبيين توفر الطعام المطبوخ في شوارع العاصمة المصرية طوال الوقت. وأن أهالي القاهرة يفضلون أن يتناولوا طعامهم في تلك المطاعم. والبعض منهم يفترش الأرض أمام هذه المحال التي تقدم فاخر الطعام المطهو. وعلى ما يبدو أن هذه الظاهرة لم تكن معروفة في مجتمع مدن البحر المتوسط بمثل هذا الوضوح والكثافة. الأمر الذي شد أنظار الرحالة وأجبرهم على تسجيل هذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعاتهم.
النصوص التي ترصد حقيقة توفر القاهرة على مطاعم تقدم الوجبات الجاهزة، كثيرة ومتنوعة. وتذكر بعض التفاصيل الحياتية لأهالي القاهرة قبل العصر الحديث، بصورة لا نجدها في الكثير من الأحيان لمدن أخرى. كذلك تقدم لنا هذه الأوصاف الحياة الاجتماعية لأهالي القاهرة في أدق تفاصيلها وبصورة تنبض بالحياة ويمكن إعادة تمثيلها ببساطة. وسيدهش البعض من التواصل الزمني لبعض الظواهر الاجتماعية على مدار ألف سنة حتى يوم الناس هذا. فالكثير مما يذكره الرحالة سنجد شبيها له عند التجول في شوارع القاهرة المعاصرة.
**
المقريزي مؤرخ القاهرة البار (توفى سنة 845هـ/ 1442م)، يذكر لنا الكثير من النصوص حول مطاعم الوجبات الجاهزة، والإقبال الشعبي عليها. وهو يرصد الظاهرة من باب رصد ما هو قائم لا من باب التعجب. فما يقوله في محل العادي والمعتاد، فالأكل في حوانيت الطباخين عادي، ويقبل عليه الناس بكل أريحية، والطعام الجاهز يباع في الأسواق ليل نهار كأمر متعارف عليه. فقد جرت العادة في بين القصرين وقد صار سوقا أن قعد فيه الباعة بأصناف المأكولات من اللحمان المتنوعة والحلويات المصنعة والفاكهة وغيرها. فصار متنزهًا تمر فيه أعيان الناس وأماثلهم في الليل”.
يعطي المقريزي معلومات إضافية في كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، قائلًا: “وقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر. يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفًا من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية. فيباع لحم الدجاج المُطجن ولحم الإوز المطجن كل رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع. وتباع العصافير المقلوة كل عصفور بفلس، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم”.
ويقدم المقريزي نصا آخر على غاية الأهمية يؤكد بعض ما تفردت به القاهرة وقتذاك. يقول: “وسمعت الكافة ممن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد. ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبًا على الكيمان والمزابل. يعنون بذلك ما يستعمله اللبانون والجبانون والطباخون من الشقاف الحمر التي يوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين”. هنا نرى لمحة أخرى عن عادات أكل الطعام في حوانيت الطباخين. وهو يكاد يحصرها في الفقراء من أهالي المدينة.
بينما يقدم لنا الرحالة المغربي العبدري، والذي زار مصر سنة 689هـ/ 1290م، نصا مهما عن الوجبات الجاهزة واعتماد الناس عليها قائلا: “وكنت نزلتُ بالمدرسة الكاملية [ببين القصرين] منها في علو مشرف على السوق. فكنت قلما أرقد إلا مُنغصا لصياح الباعة، وهم يبيعون طول الليل. وقلما يكون طعام الشريف منهم والوضيع إلا من السوق، والضغط على ذلك، والزحام متصل، والطرق غاصة بالخلق”. هنا يشتكي العبدري ضيق الخلق من زحام القاهرة، واستمرار الباعة في المناداة على بضائعهم طوال الليل. في ظاهرة نعرفها حتى يومنا هذا فنقول ويقول معنا كل من يزور المدينة: “القاهرة مدينة لا تنام”.
**
وقد عبر الرحالة الإيطالي ليوناردو فريسكوبالدي، الذي زار مصر سنة 786هـ/ 1384م، عن اندهاشه من ظاهرة تقديم المطاعم للوجبات الجاهزة طوال اليوم. إذ يقول في كتابه (رحلة إلى الأراضي المقدسة): ” مدينة القاهرة… مدينة فيها كل شيء… وهناك في المدينة عدد كبير من الطهاة يطبخون خارجًا في الشارع سواء في الليل أو في النهار. يعدون الطعام في أوان من القصدير وهي جميلة، ولحمهم طيب ولا أحد يضاهيهم فيه. ولا أحد يطبخ في بيته مهما كان غنيًا. فكل واحد يذهب لشراء حوائجه من البازار، وهم يسمونه هكذا. وفي كثير من الأحيان يأكلون في الشوارع حيث يفرشون قطعة من الجدل يضعون عليها قصعة الأكل يتحلقون حولها متربعين أو جالسين القرفصاء. وعند انتهائهم من الأكل يعلقون فمهم بلسانهم”.
نص الرحالة الإيطالي يتضمن معلومات غاية في النفاسة عن بعض العادات الاجتماعية لأهالي القاهرة في مأكلهم وعاداتهم الاجتماعية. يؤكد هذه المعلومات ما ذكره الحسن الوزان (ليون الإفريقي)، والذي زار مصر سنة 923هـ/ 1517م. إذ يقول في (وصف إفريقيا): “ويضم حي يسمى بين القصرين دكاكين يباع فيها اللحم الناضج. وهي نحو ستين دكانا، كلها مجهزة بأوان من قصدير، وتباع في أخرى مياه مصنوعة من جميع أنواع الأزهار، مذاقها رفيع جدا. ولذلك يشرب منها جميع النبلاء، ويحفظها الباعة في قوارير جميلة جدا من الزجاج أو القصدير مصنوعة بشكل فني. وتأتي بعدها دكاكين أخرى تباع فيها حلويات معروضة بطريقة حسنة، ومختلفة عما يباع عادة في أوروبا، وهي نوعان: نوع بالعسل وآخر بالسكر. ثم يأتي الفاكهانيون الذين يبيعون الفواكه المجلوبة من الشام، كالإجاص والسفرجل والرمان. وبين هذه الدكاكين دكاكين أخرى مبعثرة تباع فيها الفطائر والبيض المقلي والجبن المقلي”.
**
ويبدو أن الظاهرة معروفة في الفسطاط أيضا. إذ أن الرحالة ابن سعيد الأندلسي الذي زار مصر سنة 640هـ/ 1243م، وأقام فيها مدة). يقول في كتابه (المُغرب في حلي المغرب) عن جامع عمرو بن العاص: “ثم دخلت إليه فعاينت جامعًا كبيرًا قديم البناء غير مزخرف…. والبياعون يبيعون فيه أصناف المسكرات والكعك وما سوى ذلك. والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك. وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقًا. وفضلات مأكلهم مطروحة في صحن الجامع”.
هذه النصوص المتواترة تكشف لنا عن وجه من وجوه القاهرة المتعددة. فظاهرة حوانيت الطعام الجاهز، وتخصيص أماكن للأكل خارج المنزل كانت حالة عامة في تاريخ المدينة منذ قرون عديدة. يرجع ذلك في الأساس لازدهار العاصمة المصرية (الفسطاط ثم القاهرة) تجاريا، وتحولها إلى مركز تجاري عالمي وتجمع بشري ضخم. ما سمح بتوفر طبقة من العمال والتجار ومن في حكمهم، ممن يعملون لساعات طويلة ولا يستطيعون مغادرة محال أعمالهم للذهاب إلى المنزل لتناول وجبة الغداء. فظهرت مطاعم الأكل الجاهز. ثم توسع الأمر حتى بات شراء ربات البيوت لهذه الوجبات أمرًا اعتياديًا خصوصا بين أبناء الطبقات الميسورة في ملمح ارتبط بمدينة القاهرة ويعكس مدى الرخاء والازدهار الذي عاشته لفترات طويلة.
اقرأ أيضا:
لماذا ابتذلت القاهرة؟ القلعة بين الفاطميين والأيوبيين