«القاهرة.. الذاكرة الفوتوغرافية».. كتاب يؤرخ للقاهرة بالصورة
صدر للدكتور خالد عزب عن مكتبة ديوان كتاب «القاهرة.. الذاكرة الفوتوغرافية» متضمنا عشرات الصور للحياة في مدينة القاهرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
يبدأ الكتاب في عام 1839، حين أعلن زعيم الحزب الجمهوري الفرنسي “فرانسوا أرغو” أمام الجمعية الوطنية الفرنسية عن اكتشاف “التصوير الشمسي”، وشراء الحكومة الفرنسية لهذا الاكتشاف وتقديمه للإنسانية. وكصورة من صور مسايرة مصر لأحدث اكتشافات الغرب، التقطت أول صورة فوتوغرافية في المنطقة العربية في الرابع من نوفمبر عام 1839 بحضور محمد علي باشا في مدينة الإسكندرية. ومنذ التقاط الصورة الأولى في الإسكندرية، دخلت المنطقة العربية مرحلة جديدة من التوثيق البصري، وأخذ مئات المصورين بالتدفق على مصر وسوريا، والتقطت آلاف الصور للمعابد والهياكل القديمة للمدن والقرى، وصورت عدسات المصورين مختلف المناظر ومظاهر الحياة الاجتماعية.
***
لاقت تلك الصور رواجًا كبيرًا في السوق الأوروبية، وخلال القرن التاسع عشر فقط، نشط أكثر من ثلاثمائة مصور في مصر وبلاد الشام، وكان معظمهم من الفرنسيين والبريطانيين، وبعض الألمان والأمريكيين.
وقد شهدت مدينة القاهرة حالة من الازدهار المعماري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، عكسته لنا مجموعة الصور الشمسية التي ضمها ألبوم لمجموعة من الصور كانت تحتفظ به مكتبة الملك فاروق الأول. تم حفظ هذا الألبوم بعد ثورة 23 يوليو 1952م في مكتبة وزارة السياحة، ثم أهدته وزارة السياحة المصرية إلى مكتبة الإسكندرية فأصبح ضمن مقتنياتها. تلك المجموعة تمكن المطلع عليها من التعرف على ما كانت عليه كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية في مدينة القاهرة منذ عام 1849 حتى أوائل القرن العشرين.
تحوي هذه المجموعة صورًا شمسيةً لمناظر شوارع وميادين القاهرة القديمة، كميدان محمد علي، ميدان الأوبرا، ميدان العتبة الخضراء، حي جاردن سيتي، شارع عماد الدين، وشارع شبرا، بالإضافة إلى صور لعديد من السرايا والقصور التي اتخذتها أسرة محمد علي مقرًّا للحكم، كسراي عابدين، سراي القبة، وقصر النيل.
كما يمكن للمطلع على هذا الألبوم متابعة التحول العمراني الذي أحدثه الزمن في عروس الشرق من خلال مجموعة صور لأعرق الفنادق بالقاهرة، كفندقي الكونتننتال وشبرد، بالإضافة إلى صور لدار الأوبرا القديمة، المتحف المصري، كوبري قصر النيل، وكوبري أبي العلا، ومجموعة صور لحديقتي الأزبكية وروستي، ومجموعة صور لأقدم مساجد القاهرة، والقناطر والبرك التي أقيمت وحفرت بالقاهرة آنذاك.
***
تعد تلك المجموعة من الصور الشمسية لمدينة القاهرة بمثابة كنز ينطق بما شهدته مدينة القاهرة من رقي معماري وتخطيطي. وقد التقط تلك الصور فنانون مروا وأقاموا في مصر، ومنهم الفنان مكسيم دي كامب، الذي نشر مؤلفا زوده بمائة وخمسين صورة شمسية واهتم فيه بتسجيل مشاهداته عن الآثار المصرية التي بهرته. قام برحلة إلى الشرق طاف خلالها في آسيا الصغرى، كما زار إيطاليا والجزائر. استطاع في عام 1848، وهو في السادسة والعشرين من عمره، أن ينشر كتابه “ذكريات أدبية” الذي أهداه إلى زميله جوستاف فلوبير، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين منهم فرنسيس فريث، بيشار، والفنان ليكيجيان.
تقدم لنا مجموعة الصور تصورًا للحياة في مدينة القاهرة خلال ما يقرب من مائة عام، ويمكننا من خلالها أن نشاهد ما كانت عليه أحياء المدينة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كحي الإسماعيلية المعروف اليوم بميدان التحرير، الذي كان يعد من أزهى أحياء القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل، وحي شبرا الذي كان محاطًا بأندر النباتات والزهور وأشجار النخيل، حتى وصفت شبرا بأنها “فردوس القاهرة”. هذا بالإضافة إلى حي روض الفرج الذي كان يعد قديمًا مركزًا للمسارح، وحي جاردن سيتي الذي وصف بأنه “سلة أزهار انبثقت منها القصور والدور البديعة”، وكذلك حي الزمالك الذي ظهر في القرن الخامس عشر، بالإضافة إلى أحياء أخرى كحي الأزبكية وحي الفجالة.
أما فيما يتعلق بميادين القاهرة، فتعطينا مجموعة صور مدينة القاهرة صورة حية لما كانت عليه ميادين هذه المدينة من روعة وتخطيط، ومنها ميدان عابدين الذي كان في بادئ الأمر مجرد منطقة متواضعة، عبارة عن مجموعة من البرك الراكدة والمستنقعات. ثم أعيد تخطيط هذا الميدان بفضل “علي باشا مبارك”، فردمت هذه البرك وأصبحت تلك المنطقة بعد تخطيطها من أجمل مناطق القاهرة الحديثة.
***
وهناك مجموعة من الصور لميدان محمد علي، وميدان الأوبرا الذي يعد أحد الميادين الرئيسية في وسط القاهرة. بل نستطيع الحكم من خلال صور مدينة القاهرة خلال القرن التاسع عشر على أن هذا الميدان كان مثالا بارزا للتنظيم والتنسيق الدقيق. هذا بالإضافة إلى مجموعة صور تصف لنا الحياة في العديد من ميادين القاهرة كميدان باب الحديد “محطة القاهرة”، ميدان الملكة فريدة “العتبة الخضراء”، ميدان مصطفى كامل الذي يمتد منه اليوم شارع قصر النيل أحد شوارع القاهرة المميزة، وكذلك ميدان الخازندار وميادين باب الخرق “الخلق”.
وإذا انتقلنا إلى مجموعة الصور التي تخص شوارع القاهرة، فنجد تصورًا رائعًا لتلك الشوارع، ومنها شارع عماد الدين الذي تركزت به معظم المحال الهامة مثل المسارح ودور السينما والغناء، وشارع كلوت بك حيث تظهر به عدد من الفنادق والحانات والبارات. كما توضح الصور الفوتوغرافية لشارع شبرا أنه كان طريقًا ممهدًا، وكانت الأشجار تحف به، وشارع الهرم الذي لا يزال قبلة السائحين من كل حدب وصوب، وشارع بئر الوطاويط الذي لا يزال معروفًا حتى اليوم بهذا الاسم، وموقعه بجوار جامع أحمد بن طولون بشارع الصليبة.
***
هذا بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الصور لعدد هائل من الشوارع مثل شارع الموسكي، شارع سليمان باشا، شارع الملكة فريدة، شارع نوبار باشا، وشارعي الصاغة وسوق السلاح، وغيرها من الشوارع التي تشير بحسن تنسيقها وروعة تخطيطها إلى أن القاهرة كانت حقًا “باريس الشرق”. وفيما يتعلق بقصور القاهرة، فتبدو لنا مدينة القاهرة في أجمل صورها من خلال مجموعة القصور التي قام ببنائها أسرة محمد علي باشا لتضارع القاهرة باريس في جمالها وتنسيقها، فتكون عاصمة ومقرًا مناسبًا لعظمتهم.
ومن هذه القصور قصر عابدين الذي شُيد على طراز النهضة الفرنسية الذي كان سائدًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويعد أيضًا من أهم قصور محمد علي باشا التي شيدت في القرن التاسع عشر على الإطلاق، وسراي القبة التي شهدت ميلاد الخديوي عباس حلمي الثاني، وسراي شبرا وسراي قصر النيل وسراي الوالدة باشا وسراي شريف باشا، كل هذه القصور التي تصورها لنا هذا الكم الهائل من الصور.
هناك أيضا مجموعة الصور الخاصة بكباري مدينة القاهرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ومنها كوبري الإنجليز الأول “كوبري الجلاء” الذي شيد ليربط منطقة الدقي وبولاق الدكرور بالزمالك، وكوبري قصر النيل الذي يعد أول كوبري شيد على نيل القاهرة، والذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، وكوبري بولاق “أبو العلا” الذي كان معجزة هندسية يربط بين القاهرة وجزيرة الزمالك.
***
هذا بالإضافة إلى مجموعة صور نادرة للخليج المصري، ومجموعة صور أخرى تنشر لأول مرة للقناطر التي أنشئت عليه مثل قنطرة درب الجماميز، وآق سنقر، وقنطرة الأمير حسين والموسكي، والحفني، وقنطرة الذي كفر، وقنطرة بين السورين وشاهين وقنطرة ثابت باشا. كان لهذه القناطر أكبر الأثر في تعجيل ونمو وازدياد التعمير على الضفة الغربية للخليج التي كانت معظم أراضيها بساتين وحقولاً، كما كانت هذه القناطر موضع تنزه في العصرين المملوكي والعثماني، هذا بالإضافة على مجموعة صور لبركتي الأزبكية والفيل، ومجموعة لترعة الإسماعيلية التي كانت توصل مياه النيل إلى مدينة السويس حتى نمت كثير من أراضيها.
وعن حدائق القاهرة، فنستطيع مشاهدة أجملها من خلال مجموعة صور مدينة القاهرة، ومن الفنادق جاءت إلينا صور لفنادق شبرد، الكونتننتال وسميراميس.
***
ازدانت القاهرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بعدد كبير من المتاحف والدور التي تعالج النواحي الفنية والأثرية والعلمية، جاء على رأس هذه المتاحف المتحف المصري الذي أنشئ في بادئ الأمر في بولاق، ثم نقلت مقتنياته إلى سراي الجيزة، وأخيرًا استقر به الأمر ليكون مقره في ميدان التحرير. نستطيع تتبع مراحل انتقاله عن طريق متابعة صور القاهرة لهذا المتحف الضخم الذي يعد اليوم أهم متاحف العالم، بالإضافة إلى صور عديدة لدار الأوبرا المصرية التي تعكس لنا مدى الاهتمام بالحياة الفنية في تلك الفترة.
اقرأ أيضا:
خالد عزب يكتب: «تاريخ الغناء الشعبي».. التاريخ المنسي للأغنية المصرية