الذهب.. قصة صلاح جاهين المجهولة
كان صلاح جاهين فنانا شاملا طرق معظم أبواب الكتابة منذ أن بدأ حياته الفنية في جريدة الملايين عام 1951 وانتقل بعدها إلى مجلة “بنت النيل”، ثم انطلق بعد ذلك إلى روزاليوسف وصباح الخير إلى أن انتهت رحلته في الأهرام، طرق صلاح جاهين معظم أنواع الكتابة والفنون من شعر ورسم وسيناريو وأغنيات ومسرحيات ومقالات، كما تولى إدارة مجلة صباح الخير عام 1966، وكانت تجربته ثرية في إدارة تحرير المجلة التي شهدت انطلاقته في عالم الشعر والرباعيات والكاريكاتير وكتابة المقال.
ونحن نحتفل بذكرى ميلاده ننشر «الذهب» قصته المجهولة التى نشرها في بدايات عمله بالصحافة عام 1953 في مجلة بنت النيل التي أسستها درية شفيق، ويبدو أنه لم يعاود الكتابة القصصية مرة أخرى.
قصة الذهب
رمزي قريب لي، طويل وعريض لا أتخيله إلا صامتا أو على شفتيه بسمة وعيناه تجولان في المكان كأنما لذته في الدنيا التفرج عليها، دون أن يدلي بدلوه في حوادثها بتغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان وفي يوم من الأيام بعد أن تناولت غذائي استلقيت في فراشي قليلا لأنام، وإذا بي أجد نفسي مضطرا لأن أستيقظ فقد كانت كف كبيرة تربت على كتفي كأنها مطرقة واسمي ينادي به باستمرار وأخيرا فتحت عيني لأرى رمزي واقفا في وسط الغرفة، ولم يكن رمزي في هذه المرة باسما بل كان متجهما ولم يكن يجيل عينيه في الغرفة بل كان يحدق في وجهي بنظرة ثاقبة ولكنه كان صامتا فلما رآني استيقظت، فتح فمه وكلمني:
- صحيت؟
- أيوه، فيه إيه؟.. أهلا وسهلا
- أهلا بك.. بس كنت عايزك في كلمة
- خير..؟
ومضى رمزي إلى النافذة ففتحها وأسند ظهره إليها ومضى يتأملني، فرأيت حجمه الكبير معتما والنور من حوله كأنه شبح وبصوت هو أدنى إلى أصوات الأشباح – إن كان لها أصوات – مضى يحدثني:
- أنا متأسف لأني أيقظتك ولكن..
- لا داعي للأسف.. ماذا وراءك
- لقد حضرت اليوم من البلد واتخذت طريقي إليك مباشرة، فهل فيك من يكتم السر
فأفهمته أن السر في بئر وإذا به يتقدم بحوي خطى ثقيلة وهو ينظر إلى بنظرته الثابتة الغريبة..
- في بئر؟ هل قلت في بئر..؟ إن هذا شيء غريب!
وهنا كنت استيقظت تماما وبدأت ألاحظ أن في تصرفاته شيئا من الشذوذ، وإلا لماذا يتأثر بكلمة بئر، مع أن كل الناس يقولون في بئر على أنها الرد الوحيد على (هل فيك من يكتم السر؟)، وكان لايزال يسألني (هل قلت في بئر؟) فقلت: نعم.
- إذن فإنني لم أخطئ عندما حضرت إليك من دون أقاربنا جميعا..!! نعم في بئر! وجلس على حافة الفراش، ثم قال:
- هل تعرف البئر التي في طرف حديقة منزلنا بالبلد؟
- نعم
- إن فيها سر مجيئي إليك.. لقد كنت أقلب في أوراق جدك هذا الأسبوع فرايت هذه الورقة..
وأخرج من جيبه ورقة صفراء متآكلة، أخذ ينشرها بتؤدة خوف تمزقها ثم ناولني إياها، فإذا بها خطاب بلغة عربية غريبة جدا حاولت أن أفهم منها كلمة واحدة فلم ألتقط إلا كلمة (البير البحري) ولكنني تخيلت أنها اسم رجل لبناني من عائلة بحري واسمه (ألبير)… ولكني التقطت كلمة أخرى (شح النشيع) ففهمت أنها تعبير عن الماء عندما يشح، أما فيما عدا ذلك فلم استطع إلا قراءة اسم جدي (حضرتلو شيخ زايد منوفي)
- إنني لا استطيع أن أفهم شيئا يا رمزي.
- طبعا لأنك لم تدرس اللغة التركية.. هذا خطاب خليط من التركية والعربية كتبه ناظر التفتيش الخديوي الذي يحد أرضنا من الشمال.. ولقد قرأته على ركاكته لأن كاتبه كان من تلك الطبقة المولدة من الأتراك والعربية التي كانت تحترف نظارة أملاك الخديويين القدماء. وهى طبقة كان من طباعها.
ولكني قاطعته قائلا:
- ولكنك لم تخبرني عن هذا السر الذي في هذه البئر.. أقصد البئر البئر الشمالية التي في حديقة البيت الكبير في الريف؟
- نعم.. كم أنا غبي.. يا سيدي في البئر ثروة طائلة، أريد أن تساعدني على إخراجها.. هل فهمت؟
- نعم ولكن كيف عرفت ذلك؟؟ ماذا في هذا الخطاب المضحك؟
- يقول هذا الرجل واسمه (أدهم نصوح) أنه بتحرياته قد علم أن هذه البئر ينضب ماؤها في أوقات غير محددة، لأن كثرة حفر الآبار قد غير المواعيد التي يفرض فيها أن ماءها يشح تبع الفيضان والتحاريق، ولكنه سيخرج (الصندوق) بطريقة السحب وما على جدنا إلا أن يمنع مرور الأهالي وأفراد العائلة من جواره حتى لا يفزعوا الجن الذين سيستخدمون في هذه العملية..
- ولكن لماذا لم يقل له هذا بفمه؟ لماذا يكتب إليه؟
- لأنه كان في القاهرة يتعاقد مع أحد كبار المغاربة على استخدام السحر في هذا العمل وقد أرسل هذا مخصوص لأجل سرعة التنفيذ، لأن المغربي سيعمل في القاهرة المباركة بأهل بيت الكرام، هل فهمت؟
- نعم، ولكن هل أفلحوا؟ في سحب الصندوق بفرض أنه يحوي شيئا؟
- لا.. لم يفلحوا لأني وجدت ورقة أخرى بخط المغربي ينهي فيها العمل ويخبرهم أن هذه الكنوز ليست من نصيبهم وهى مؤرخة بعد الورقة الأولى بثلاث سنوات..
فأطرقت قليلا، وتخيلت كم من النقود أنفقها جدي وذلك التركي حول هذه السنوات الثلاث ثم رفعت رأسي وقلت:
- والآن ماذا تريد أن نفعل..؟
- حيث أنهم علموا بوجود أشياء ذات قيمة في هذه البئر ولم يفلحوا في إخراجها لوجود الماء فيها باستمرار كما لم يفلح ما التجأوا إليه من أعمال السحر والشعوذة. فإني أرى أن هذه الأشياء يرجح وجودها.. ولابد أن نعمل شيئا في سبيل إخراجها.. فهل لديك وقت لتسافر معي؟ إن سيارتي جاهزة.
ولم يكن لدي ما أعمله فرأيت أن أتتبع هذه المغامرة إلى النهاية، ولذلك فأني لبست ملابسي وأخذت حقيبة صغيرة وخرجت معه لنسافر في الحال.
كانت الرحلة طويلة جدا لا لأن المسافة بعيدة، بل لأن السيارة بطيئة لأنها قديمة وضعيفة وكان رمزي أثناء الرحلة غارقا في التأملات، مما أتاح لي الفرصة لأتأمله وفي ذلك الصمت الطويل أخذت أفكر فيه وكان تفكيري كله أسئلة.. لماذا يهتم رمزي بهذه المسألة؟، أليس هو الشخص الذي لا يأبه لشيء؟ نعم هو فقير.. ولكن أليس ما يقبضه من الوقف وما يمنحه له أبوه وهو ناظر الوقف وما يتقاضاه من عمله كموظف الحكومة.. أليس كل هذا كافيا له؟ أو على الأقل.. ألم يكن مقتنعا به على قلته، ثم نعود مرة أخرى للتساؤل ما هذا التغيير في شخصيته؟ إنه كان دائما سلبيا لا يحاول التدخل في مجرى الحوادث ليغيرها أو يبدل نتائجها، فلماذا يقوم بهذا الدور الإيجابي ويبذل هذه الطاقة التي لم يكن يبذلها ولو انطبقت السماء على الأرض؟، وكان ختام الأسئلة سؤال وجهه هو إلىّ وكان وجهه متجهما بينما يحاول فمه الابتسام.
- هل تلاحظ أن الفتيات الريفيات اللواتي نمر بهن ينظرن إلى السيارة بعين الإحتقار؟
ودهشت لهذا السؤال ولكني أجبت مازحا
- لماذا تعلق هذه الأهمية على رأيهن؟
- لأنهن يشاهدن في هذا الطريق مئات العربات الفاخرة تنهب الأرض إلى الإسكندرية ورأس البر في كل يوم وكل عقل في الدنيا أداة من طبيعتها أن تقارن!
لن أطيل عليكم فيما فعلناه في هذا المنزل المهجور، فقد انتظرنا حتى أظلمت الدنيا وانصرف الفلاحون الذين جاءوا ليسلموا علينا ويهنئونا بسلامة الوصول، ثم قمنا إلى البئر وفي جيب رمزي بطارية كبيرة صوب أشعتها في داخل البئر قائلا:
– لقد كنت أحضر إلى هنا كل ليلة من أجازتي وأصوب الأشعة إلى داخل البئر هكذا وقد لاحظت أن في أحد جوانبها أحجارا لا تشبه بقية الأحجار تماما، مما يجعلني أعتقد أنها ليست إلا بابا جانبيا يوصل إلى حجرة الكنر.. ولكنني كنت أحتاج إلى زميل أثق به ليدليني بهذا الحبل الذي ذي ته هنا حتى أرى هل أستطيع شيئا..
وربط وسطه بالحبل وأمسكت أنا بطرفه ثم أخذ ينحدر رويدا رويدا ومعه البطارية حتى وصل إلى حيث الأحجار.. ثم أخرج من جيبه شاكوشا أخذ يطرق به الأحجار واحدا وحدا.. وكان ثقيلا.. فكم من مرة كدت أفلته من بين يدي وأخيرا استطاع أن يحرك أحدها، وأن ينزعه ليسقط في الماء الضحل بصوت هائل، وفي اللحظة التالية كانت مقاومتي لثقل رمزي آخذة في الضعف ونظرت خلفي بينما كان ييحاول أن ينزع حجرا آخر فرأيت جذع نخلة قديمة أخذت أتحرك إليه في بطء وأنا لا أزال أشد الحبل حتى وصلت إليه وأخذت أعقد الحبل حوله وفي اللحظة التي تمت فيها الربطة سمعت رمزي يصرخ! ونظرت في البئر ولكن نور البطارية كان بعيدا جدا وضعيفا جدا ثم انطفأ، فعلمت أنها انغرست في الطين وكان رمزي يصرخ
- إيه ده… إيه ده.. آي آي
وجذبت الحبل فوجدته ثقيلا.. إذن رمزي لا يزال مكانه، إذن لماذا سقطت البطارية؟ واستمت في جذب الحبل على صياح رمزي المخيف. حتى إذا لم أعد استطيع أن أجذب، رأيت نورا أصفر يغمر المكان وصوت خفير يستاءل هو الآخر:
- إيه ده؟ مين هنا؟
ورآني الخفير فعاونني في الجذب حتى أخرجناه وكان يئن وحول ذراعه كان يتلوى ثعبان..! وتعاونت مع الخفير على قتله حتى ارتمى على الأعشاب وعلى نور القنديل الحقير رأيته جيدا فكان أصفر لامعا كالذهب..!!
وفي القاهرة عالجناه، بعد العلاج الريفي السريع، ثم غاب عني يومين وفي اليوم الثالث كنت نائما بعد الغذاء عندما غمر عيني نور قوي.. فاستيقظت لأرى رمزي مستندا على النافذة كما فعل منذ أيام وغلبتني روح الفكاهة فقلت له:
- إيه يا رمزي؟ إن سرك عندي في بئر.. فهل سيارتك بالباب لنقوم؟
ولكنه كان يضحك ثم تقدم مني وجلس على حافة الفراش ثم مال نحوي بوجهه وقال:
- خلاص.. لا أريد الذي كنت أحسبه في البئر لقد قلت سعاد يدي!!
- ومن سعاد؟
- فتاة قابلتها منذ شهرين وأحببتها ولكن.. كنت أحسب أنها لا تحبني ولن تقبل يدي لأنني أقل منها في الثروة كثيرا..
- إذن فهذا الذي جعل تقتحم الأهوال والصعاب، ولكن أخبرني ماذا حدث بعد ذلك ؟
- كنت في أثناء رقادي على أثر اللدغة أهذي كثيرا وتصادف أنها زارتني لتعودني مع عائلتها.. ولأجل الصدفة المحضة لم يكن في الغرفة غيرنا عندما هيأت لي الحمى أن أنهض وأعبر لها عما كنت أخشى أن أعبر عنه طوال الفترة التي عرفتها فيها، ولو أنني كنت في كامل قواي لما فعلت لأني كنت أعلم أن لها عقلا والعقل من طبيعته المقارنة..
- وماذا حدث؟
- لدهشتي الشديدة رأيتها توافق وتوافق بفرح.. يا سلام إن لسعاد قلبا من الذهب..!!
- من الذهب؟؟
- نعم…..بئر لا قرار لها مليئة بـ”الذهب”!!
2 تعليقات