التغني بتركة «عدوية» بين تبني الصوت الشعبي ورجم الثقافة؟!
ما بين المبالغة في الهجوم الذي تعرض له المغني الراحل أحمد عدوية في مستهل حياته الفنية، والمبالغة في المديح الذي كيل إليه في الفترة الأخيرة من حياته، وعقب وفاته، تتجلى “انفعالية” زائدة، تتسم بالشطط والتأويل المفرط (بتعبير إمبرتو إيكو)، تعكس بدورها أزمة عقلية مزمنة لا تداويها السنوات والعقود.
***
كنت في السادسة عشر أو السابعة عشر من عمري تقريبا، حين اصطحبني الأديب محمد جابر غريب (الذي كان يملك مكتبة لبيع الكتب المستعملة بسور السيدة زينب القديم، تتحول أحيانا إلى ندوة – أو بالأحرى “قعدة”- ثقافية، أذكر من بين روادها الأديب محمد إبراهيم مبروك والناقد مصطفى عبد الوهاب، شقيق الناقد السينمائي وليد سيف، وغيرهما)، اصطحبني، كما كنت أقول، إلى نادي القصة الذي كان قائما في إحدى عمارات جاردن سيتي (تم بيع الشقة ونقل النادي إلى عمارة قريبة من ميدان لاظوغلي منذ حوالي عام). كنت قد كتبت قصة أو اثنتين في ذلك الوقت، واقترح علي محمد جابر غريب أن أذهب معه إلى نادي القصة، حيث يتاح للجميع أن يقرأوا قصصهم ويناقشونها في موعد أسبوعي ظل قائما على مدار سنين وعقود.
في ذلك المساء البعيد لا أنسى أبدا القصة التي سمعتها في النادي ولا ملامح صاحبها: كانت بعنوان “هذا الصوت وآخرون”، وكان يتلوها الأديب عبد العال الحمامصي، وقد صدرت فيما بعد ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه. كانت القصة تعدد مظاهر الانحدار الذي وصلت إليه البلد في الذوق والأخلاق والاقتصاد، وهو انحدار يتخلله دوما ويجسده صوت أحمد عدوية الذي ينبعث من أجهزة الكاسيت في كل مكان.
كلنا، في مجلس نادي القصة، كنا نؤمي برؤوسنا مع كلمات عبد العال الحمامصي، بلكنته الريفية المميزة والجذابة، معربين عن اتفاقنا واستحساننا، مقتنعين بأن أغاني عدوية ليست سوى أحد مظاهر الانحدار العام الذي وصلت إليه البلد مع نهاية السبعينيات (ما بين انتفاضة 1977 واغتيال الرئيس السادات في 1981).
***
ما أشبه اليوم بالبارحة، وإذا كنت مندهشا ومبتسما، عزيزي القارئ، من الربط بين الانحدار الثقافي والاقتصادي العام خلال السبعينيات وأغاني أحمد عدوية، فما عليك سوى أن ترجع إلى ما يكتب ويقال اليوم حول أغاني المهرجانات وأصحابها، والربط بينهم وانهيار الذوق والأخلاق. الغالبية الساحقة تنتقد أغاني المهرجانات وتعتبرها أحد مظاهر الانحدار العام، حتى لو كانوا يرقصون على نغماتها في الحفلات والتجمعات، رقصا ضاحكا خجولا، كما لو كانوا يرتكبون فعلا شائنا مقتنصا من الزمن. ليست النخبة الثقافية فقط هي التي ترجم أغاني المهرجانات بالحجارة، كما أنها لم تكن الوحيدة التي رجمت أغاني عدوية في السبعينيات.
لن أقع في مطب لوم النخبة الثقافية آنذاك، كما يفعل بعض الذين ينعون ويؤبنون عدوية الآن، بانفعالية مفرطة، لا تختلف كثيرا عن مثيلتها في السبعينيات: انفعالية تتراوح بين الحماس الشديد حد الوهم، والقنوط الشديد حد اليأس، سواء كان موضوع الحماس والقنوط حدثا سياسيا جللا أو مباراة كرة قدم.
الظاهرة في تصوري ليست قاصرة على، أو قصور من النخبة الثقافية فقط. ذلك أن هذه النخبة ليست سوى إفراز لثقافة عامة، بالمعنى العام للثقافة، أي مجمل الموروث والقائم من معتقدات وأخلاق وتصورات ومستوى تعليمي، وتربية منزلية ومدرسية، وإعلام مرئي وسمعي ومكتوب، ونظام سياسي وتشريعي واقتصادي، وذوق فني وثقافي ناتج عن كل ما سبق.
***
الثقافة ليست حكرا على من نطلق عليهم النخبة، بل النخبة هي مجرد إفراز للثقافة بمفهومها العام، وللأسف ليس لدينا حتى الآن إمكانية استيراد نخبة ثقافية، كما نستورد كل شيء آخر، وحتى لو حدث فهذه النخبة المستوردة سوف تفسد غالبا بفعل الفساد “الثقافي” العام المتمثل في المعتقدات والأخلاقيات والكيانات والأنظمة سابقة الذكر.
ولكن هل كانت ظاهرة أحمد عدوية، حقا، تعبيرا عما يطلق عليه “الانحدار الثقافي العام” في السبعينيات؟ الإجابة ببساطة هي: نعم!
توفي عبد الحليم حافظ، أنجح مطربي عصره، والتعبير الأمثل عن ثقافة وذوق الفترة الناصرية، في 1977. قبل وفاته بقليل تحولت آخر حفلاته، التي شدا فيها بأغنيته الأخيرة “قارئة الفنجان”، المغناة بالفصحى، عن قصيدة لنزار قباني، إلى “مهزلة” بمعنى الكلمة، وتحولت إلى إعلان مبكر عن انتهاء زمن عبد الحليم حافظ.
***
في هذا الحفل راح الجمهور يصفر ويصيح وينتقل بالكراسي الخشبية الوضيعة كيفما شاء، وقام أحد المعجبين، وهو “ترزي” رجالي، باقتحام الكواليس لإهداء عبد الحليم بدلة مصممة الجيوب على شكل فناجيل، تشبه البدلات التي كان يرتديها شعبان عبد الرحيم في نهاية التسعينيات!
عبد الحليم، المصدوم والمفزوع من منظر الجمهور، المكون أغلبه من حرفيين وتجار من الرجال، قال لهم “أنا كمان بعرف أصفر زيكم!” وعندما لم يستجيبوا، صاح فيهم “اسكتوا بقى!”. لقد كان يأمل أن يقدم لهم “فنا راقيا” يعبر عن زمنه، ولكن الزمن كان قد تغير: والطبقة الوسطى التي أفرزت وكانت تستهلك أغانيه قد بدأت في الزوال، بينما راحت فئات أخرى من الحرفيين و”تجار الشنطة” والعائدين من الخليج يصعدون إلى القمة. ويمكن مراجعة أفلام مثل “انتبهوا أيها السادة”، و”أهل القمة” و”عودة مواطن” و”سواق الأتوبيس” و”أنياب” وغيرها للتعرف على ملامح هذه الفترة ورأي أبناء الطبقة الوسطى آنذاك في هذه التحولات.
***
هذه التحولات كانت قد أصابت السينما نفسها، ممثلة في صعود ظواهر مثل نادية الجندي وظهور تيار من الأفلام الكوميدية المتواضعة تدور حول الصعود الطبقي السريع وتصور حياة المخدرات والملاهي الليلية، وكثير من هذه الأفلام استعانت بأحمد عدوية كمغن وممثل لجذب الجمهور. ومن الطريف أن فيلم “أنياب” (محمد شبل، 1981) يستعين بعدوية نفسه كمصاص دماء يتجسد في نماذج تمثل هذا الانحدار الاجتماعي: تاجر مستغل، سباك، ميكانيكي، سائق تاكسي، مدرس، طبيب، أو صاحب عمارة!
يمثل “أنياب” رعب الطبقة الوسطى للخمسينيات والستينيات (التي كانت تعتمد على التعليم الجيد والوظيفة الحكومية كوسيلتين أساسيتين للحياة الكريمة) من الطبقات الدنيا الصاعدة التي تعتمد على التجارة والسمسرة والفهلوة والثروات التي تهبط فجأة.. والتي تتغذى مجازيا على دماء الطبقة الوسطى.
ومقارنة باللغة الفصحى التي شدا بها عبد الحليم حافظ في “قارئة الفنجان”، كان عدوية يردد لغة “شعبية” من نوعية “كركشندي دبح كبشه” و”السح الدح إمبو” و”جهرشة جهرشة” التي يغنيها في “أنياب”: هذه اللغة الغامضة، المحطمة، العبثية، التي تمثل مقدمة طويلة لما وصلنا إليه من أغاني المهرجانات، مرورا بظواهر مثل شعبان عبد الرحيم، الشهير بـ”شعبولا”.
نعم، كان أحمد عدوية تجسيدا لزمن مختلف، لا نجزم بأنه أردأ مما سبقه، ولكنه بالتأكيد لا يقل عنه رداءة! وقد وجدت النخبة الثقافية، ولم تزل، نفسها حائرة بين امتداح فن نتاج سلطة ديكتاتورية، مهذب ومنقح وموجه، وبين احتضان فن نتاج عشوائية شعبوية، “شعبوللية”!
***
يجد المثقف، الذي ينتقد النخبة الثقافية، نفسه محيرا بين الانحياز لأحد الطرفين، معتقدا أنهما طرفان، وليسا وجهين لنفس العملة، وأنهما، معا، نتاج لوضع عام، وثقافة عامة، تفرز هذه النخبة نفسها، ومنتقديها، الذين يراوحون مكانهم انفعالا مفرطا مستقطبا، بين الحماس الشديد والقنوط الأشد. انفعال يتجسد في عبارة عبثية قالها أحد المحسوبين على السياسة والثقافة في نهاية القرن الماضي: “إن شعبان عبد الرحيم (لأنه غنى “أنا بكره إسرائيل”) هو أكثر شجاعة من كل المثقفين!” وهو كلام تردد ما يشبهه في إطار تأبين أحمد عدوية مؤخرا.
والحقيقة أن أكثر المتحمسين لعدوية بين هؤلاء لا أعتقد أنهم يستطيعون سماع أغانيه سوى على فترات قصيرة متقطعة، ومن بين عشرات الأغاني التي غناها لن يذكروا له سوى عدد لا يزيد عن أصابع اليدين، مثل “زحمة” و”بنت السلطان” والمواويل، ولا أعتقد أنه من المطربين المفضلين لدى الأجيال الجديدة المفضلين، إلا على سبيل النوستالجيا المصحوبة بابتسامة وهزة رأس عابرة.
كان أحمد عدوية مغنيا جيدا بالتأكيد، امتلك صوتا جذابا، وحشيا، “حرشا” بالتعبير الشعبي، عبر بشكل مثالي عن الفئات “الشعبية” التي صعدت إلى قمة السلم الطبقي، كما لو أنها عادت لتنتقم، على طريقة نادية الجندي في أفلامها، من الطبقة الوسطى التي خذلتها بأحلامها الكبرى الفاشلة. وشخصيا أعشق ثلاثا أو أربعا من أغانيه، وثلاثة أو أربعة مقاطع قصيرة من بعض أغانيه، وبالتأكيد من قبيل المبالغة الانفعالية أن نقارنه بعبد الحليم حافظ أو حتى عمرو دياب ومحمد منير.
***
أحمد عدوية ابن زمنه، الذي تزامن فيه خفوت الناصرية وصعود الساداتية مع خفوت الإذاعة الرسمية وظهور الكاسيت. كان جهاز الكاسيت وأشرطته بمثابة امتياز طبقي في تلك الفترة (هل شاهدتم صور الشباب الذين يحملون الكاسيت على الشاطئ متفاخرين بعضلاتهم والجهاز التكنولوجي الحديث الذي اشتروه حديثا؟). ولم يكن جهاز الكاسيت تعبيرا عن المكانة الاجتماعية فقط (التي أصبحت بمتناول أبناء الفئات الصاعدة، خاصة تجار بور سعيد والعائدين من الخليج)، بل كان أيضا تعبيرا عن “ديمقراطية” الذوق، وعن امتلاك “الصوت الخاص” الذي يختلف عن صوت الإذاعة الرسمي (ثم التليفزيون الرسمي مع ظهور الفيديو كاسيت في الثمانينيات).
يرى رائد وفيلسوف الكتابة عن وسائل الإعلام مارشال ماكلوهان في كتابه “الوسيط هو الرسالة” الصادر في 1964، أن الوسائط التكنولوجية الحديثة هي التي تغير المجتمعات بغض النظر عن المحتوى الذي تحمله هذه الوسائط، يعني: عندما ظهر اختراع المصباح الكهربائي، غير ثقافة كل القرى والمدن التي دخلها، وكذلك فعلت الإذاعة، ثم التليفزيون، وذلك بغض النظر عما يبثه الراديو أو التليفزيون من مواد. وبمد الخيط أكثر، يمكن أن نرى ما فعله ظهور أطباق المحطات الفضائية، ثم الكمبيوتر والإنترنت، والهواتف المحمولة الذكية، وصولا إلى الذكاء الصناعي، بمجتمعاتنا، بغض النظر عما إذا كانت هذه المجتمعات في أوروبا وأمريكا أو في الشرق الأوسط ومجاهل إفريقيا.
***
لقد انطلق صوت أحمد عدوية عبر أجهزة الكاسيت التي كان يحملها أبناء الفئات التي تستطيع شراءها، وفي الملاهي الليلية التي يرتادها الأثرياء الجدد، ودور العرض السينمائي التي هجرها أبناء وبنات الطبقة الوسطى واحتلها جمهور جديد يشبه جمهور حفلة “قارئة الفنجان”. وقد عبر عدوية بجلاء عن ثقافة كل هؤلاء: ضجرهم، إن لم يكن إحباطهم من ذوق وثقافة الستينيات “المحفلطة” (بتعبير السادات!) وشعورهم بانعدام المعنى ورغبتهم في التعبير عن ذائقتهم الشعبية الفجة والخشنة التي طالما كبتت منذ مطلع الخمسينيات (على طريقة “ألف ليلة وليلة” “والأغاني” التي تم “تنقيحها” و”تهذيبها” في مطبوعات الدولة).
كان صوت عدوية بمثابة انفجار شعبي في وجه الطبقة الحاكمة بعد طول كبت، وتعبير عن حالة يأس من “الحداثة” التي منيت بهزيمتها الكبرى في 1967. والمؤكد أن معظم المثقفين والمتعلمين وقتها انتقدوا العرض بدلا من الوصول لأصل المرض. وهم لا يزالون يفعلون ذلك إلى الآن، سواء بانتقاد أغاني المهرجانات كنقيض مزموم لأغاني “الزمن الجميل”، أو بمديح أغاني عدوية كنقيض محمود لأغاني نفس الزمن، ولكن صوت أحمد عدوية نفسه، وخاصة بعض أغانيه الحلوة العابرة للطبقات والعصور، قد أصبح من بقايا هذا “الزمن الجميل”.
كان عدوية الصوت الأمثل لطبقته الشعبية آنذاك، والطريف أنه لم يعد شعبيا الآن، إذ يندر أن تسمعه في سيارة أجرة أو فرح أو مقهى. وعلى العكس، يمكن أن تسمعه أكثر في بيوت “المثقفين”، الذين يستمتعون بطلاوة صوته وتعبيره الشعبي الأصيل، أو في بيوت من ينتحلون صوت هذه الطبقة الشعبية، لكي يرجمون بعضهم البعض على الفشل العام!