الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر
إذا كانت مصر تمتلك العديد من كتب التاريخ بأشكال مختلفة ومتنوعة تغطي مختلف التفاصيل الخاصة بتاريخ مصر في العصور الوسطى. فهناك كتاب آخر نستطيع أن ندلف منه إلى تاريخ القاهرة ومصر، منشور على مساحة جبانات القاهرة كلها. صفحاته مكونة من شواهد القبور التي تضم مجموعة من المعلومات النادرة والثمينة في قدرتها على تصحيح واستكمال الكثير من المعلومات التي لدينا في كتب التاريخ. بل وتشارك في إماطة اللثام عن بعض صفحات التاريخ التي كان يظن أن ضباب النسيان قد احتواها.
من هنا تأتي خطورة عمليات الإزالة الجارية في جبانات القاهرة من قبل الحكومة المصرية. لأننا هنا لا نفقد مجموعة من الحجارة التي يمكن تعويضها ببناء مثيل لها في أماكن أخرى. بل أن خسارتنا تكمن في العطب الذي سيصيب الذاكرة الجماعية للمصريين. عندما نفقد شواهد القبور التي تضم ثروة معلوماتية لم تدرس بشكل جدي بعد. فتضيع مع الهدم ذاكرة التاريخ كأنها صفحات كتاب مزقته الأيادي وعصفت به الرياح ومحت بياناته يد غافلة.
***
القرافة ليست مكانا لدفن الموتى فقط، هي مرآة حقيقية لحياة المصريين على مدى أجيال وأجيال وعقود تبلغ قرون موغلة في الزمن. فنحن أمام تراكم تاريخي يغطي 14 قرنا. فهناك الكثير الحي الذي يحتاج من يستخرجه من بين الأضرحة والمقابر. فالكثير من المعلومات التاريخية غير المعلومة لنا ترقد هناك بين شواهد القبور المهددة بالإزالة. فالمعروف أن الكثير من الشواهد تضم معلومات فريدة ولطيفة تعكس حقائق تاريخية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمصريين. وتحديدا أهالي القاهرة الكبرى على مدار سنوات طويلة. فعندما يموت الشخص كان يكتب عادة تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته وأحيانا ألقابه وبعض الوظائف التي تولاها. وهي معلومات على غاية الأهمية عند البحث التاريخي.
على سبيل المثال نجد في مقابر الأباجية بالقرب من سفح المقطم مجموعة من الترب التي تعود لأهالي إمبابة وروض الفرج. فما الذي أتى بهؤلاء من أماكنهم البعيدة إلى حضن المقطم. وما الذي ولد عندهم الرغبة في الدفن في هذه المنطقة. ألا يعكس هذا بعض المعطيات التي تتحدث عن أفكار اجتماعية معينة تهم دارس التاريخ الاجتماعي؟ كذلك نجح مجموعة من المهتمين بتوثيق القرافة في تجميع معلومات على غاية من الأهمية تخص تاريخ أسرة محمد علي. وعلاقاتها بمختلف الأسر الفاعلة في المشهد المصري وقتذاك. ويتقدم الصفوف في هذا المجال الدكتور مصطفى الصادق، المعني بتاريخ الأسرة العلوية. والذي يمتلك ثروة معلوماتية تصحح الكثير من السرديات المكررة حول أسرة محمد علي ونسلها في مصر انطلاقا من حوش الباشا الذي يضم مقابر العديد من أبناء الأسرة الحاكمة. بصورة لا تجدها في الكتب المتخصصة عن هذه الأسرة التي حكمت مصر لمدة 150 عاما تقريبا.
***
جانب آخر من جوانب الثراء التاريخي الذي تحتويه القرافة، يرشدنا إليه الدكتور حامد محمد حامد، الباحث في التاريخ الاجتماعي للقاهرة، قائلا لـ”باب مصر” إن شواهد القبور تقدم معلومات تاريخية مهمة ودقيقة في معظم الحالات. فالجبرتي مثلا استخدم الشواهد في ضبط تواريخ وفاة الكثير من الأعلام الذين ترجم لهم في كتابه (عجائب الأخبار في التراجم والآثار). وتابع: “القرافة وشواهدها تقدم معلومات غاية في الأهمية على صعيد التاريخ الاجتماعي. فهي تكشف عن ذهنيات أصحاب القبور وكيف أرادوا أن يكتبوا الكلمة الأخيرة عنهم قبل أن يدخلوا عالم الأموات. بل وربما تتحول الشواهد وما يكتب عليها إلى مساحة لتصفية الحسابات”.
ويضرب حامد المثل بواقعة أحمد عرابي باشا بطل الثورة العرابية، والذي تعرض إلى التجريد من جميع ألقابه. وتعرض للكثير من الإهانات بعد عودته من المنفى. لذا نرى أنه أصر على أن يسجل على شاهد قبره لقب “السيد” أحمد باشا عرابي، أي أنه استند إلى نسبه الشريف للتغلب على حملات التشويه والتحقير التي تعرض لها. كما أصر هو أو أي من أسرته على كتابة لقب الباشا على الرغم من أنه جرد من كل ألقابه.
ويضيف: “تعطينا تصميم المقابر وطرق الدفن المختلفة، ودرجة الاعتناء بزخرفة وخطوط التركيبات الرخامية تصورات عن مدى احتفاء أصحاب المقابر بالموت. ومدى تعلقهم بالدنيا أو رغبتهم الملحة في تخليد ذكراهم بعد رحيلهم. كما تعد الكلمات المنقوشة على شواهد وتركيبات المقابر بمثابة الرسائل الأخيرة التي يود أصحابها تركها لعالم الأحياء. أو التي يشيعهم أحبابهم من الأحياء بها”.
***
كما أن تتبع النقوش الكتابية المدونة على الشواهد -بحسب حامد محمد حامد- تعطينا إضاءات بالغة الأهمية عن علاقات القرابة في المجتمع، والتطور الاجتماعي للأسر الممتدة. حيث إن المقبرة الواحدة يدفن فيها عدد من الأجيال المتتابعة من ذات الأسرة، وعبر تتبع التسلسل التاريخي للشواهد في الحوش الواحد. يمكننا قراءة التطور الاجتماعي وأنماط المصاهرة وانعكاسها المفترض على مكانة الأبناء والأحفاد. كذلك تكشف شواهد القرافة علاقات مصاهرة بين شخصيات تاريخية لا نفهم سبب تحالفها في الواقع السياسي. إلا بالرجوع للشواهد التي تكشف أن هناك مصاهرة بينها.
يلفت مؤلف كتاب (خريدة القاهرة: شيء من سيرة الأماكن والأشخاص) النظر إلى مفارقة تتعلق بالمعماري حسن فتحي، الذي زعم أنه تحدث عن عمارة الفقراء، رغم أنه احتقر الفقراء وطبيعة حياتهم، نجد أنه مدفون في حوش الأميرة ماهيتاب قادين، زوجة الأمير طوسون، ثم نجد في الحوش قبر ديلسنت هانم، وبجوارها قبر حسن فتحي لأنه ابنها، ووجد قبر يدلسنت هانم في قبر الأميرة العلوية يعني أنها -على الأغلب- كانت ضمن حاشية الأميرة العلوية، كأن تكون أحد وصيفاتها أو معاتيقها، ومن هنا يمكن فهم الأسباب الكامنة خلف احتقار حسن فتحي للمصريين، وكيف عاش كباشا طوال الوقت.
“هنا نستطيع أن نفهم من خلال المقابر وشواهدها الشخصيات التاريخية بصورة حقيقية وأقرب للواقع تحكي المسكوت عنه في سيرتهم المشهورة بين الناس، فمن المعتاد في أحواش الدفن الكبيرة أن يتم تخصيص غرفة الدفن الرئيسة للأسرة صاحبة الحوش، في حين يتم دفن أتباع الأسرة في الحديقة أو الفناء الخارجي المحيط بغرفة الدفن، وتراوحت هذه الظاهرة بين دفن المعاتيق (أي العبيد والجواري السابقين)، ودفن العمال والموظفين التابعين لمعية أحد الأمراء أو الأعيان”.
***
المادة التي تقدمها شواهد القبور كفيلة بإعادة النظر في تاريخ مصر في العصور الوسطى حتى العصر الحديث. خاصة إذا سلمنا بحقيقة تاريخية وهي أن القرافة مبنية على طبقات من المقابر التي تنتمي لعصور تاريخية مختلفة. فيحتاج الأمر إلى حفريات أثرية تكشف عن ما تخبئه من شواهد قبور وكتابات أثرية تحت الأرض تكشف عن معلومات تاريخية غير معلومة لنا. لأن المقابر هي دفتر أحوال المصريين في تلك العصور. وبها من المعلومات التاريخية القدر الكافي لكي نعمق فهمنا بتاريخ هذه الأمة في فترات تاريخية مختلفة.
من جهته يقول عبدالرحمن الطويل، الباحث المختص في تاريخ العاصمة المصرية، لـ”باب مصر”: “هناك تاريخا لا يكتب إلا من المعلومات التي تقدمها القرافة”. لأن الجبانات تحتوي على معلومات تاريخية تغيب عن الكتب التي لا تهتم بجميع التفاصيل التاريخية. ضاربا المثل بواقعة الشيخة منيرة عبده، قارئة القرآن الكريم، والتي لم يتداول تاريخ وفاتها ولم يكن معروفا وسط معلومات متضاربة. حتى توصل مجموعة من المهتمين بالقرافة إلى قبرها وسجلوا تاريخ الوفاة المسجل على شاهد قبرها وهو 1972م. وهذه الحالة نموذج من ضمن نماذج كثيرة لحالات تعطينا فيه شواهد القبور معلومات موثقة ومثبتة وفريدة عن شخصيات مصرية معاصرة غاب ذكراها.
***
وهناك حالات أخرى -بحسب الطويل- لا نجد فيها أي ذكر لشخصيات تاريخية مهمة إلا في كتب المزارات المتخصصة في ذكر معالم القرافة. فعلى سبيل المثال هناك أبو العباس أحمد بن المشجرة وهو قارئ قرآن كريم اشتهر في العصر الفاطمي بحلاوة صوته وحسن تلاوته. ولا نجد له أي ذكر في كتب التاريخ الرسمية، لكن نجد له ترجمة في كتب المزارات وهي معلومة تاريخية مهمة عند التأريخ لمدرسة التلاوة المصرية على مدار قرون عدة. لافتا إلى أن شواهد القبور تقدم مادة تاريخية دسمة خصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين. عن شخصيات لا ذكر لها ولا وجود تاريخي مثبت إلا من خلال شواهد القبور.
هذه الآراء وغيرها لباحثين في تاريخ القاهرة وتراثها، تكشف عن فداحة الجريمة التي ترتكب الآن في حق القرافة عبر هدمها وتقسيمها إلى شرائح تفقدها وحدتها على مستوى النسيج العمراني. الذي يعكس علاقات سرية وشبكة من الطرق غير المرئية التي تصل المقابر ببعضها البعض. ولا تفك شفرة هذه العلاقات السرية إلا شواهد القبور التي تكشف عن عالم بالغ الثراء مكتظ بالمعلومات التاريخية. التي تجعلنا نفهم تاريخنا السياسي والاجتماعي بشكل أعمق. ولكن كل هذا مهدد بالضياع والمحو عندما يصدر القرار للبلدوزر بالتقدم لدهس القبور وشواهدها. ومعها تضيع بعض صفحات ذاكرة المصريين.
اقرأ أيضا:
قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة
«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب
هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة
أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي
الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية