آثار ترانزيت: التلاعب بمستندات الملكية يُمكّن عصابة أوروبية من تهريب آثار مصرية

يكشف التحقيق عن استخدام رخص تصدير مزورة، ومستندات ملكية وهمية، في الاتجار بالآثار المصرية المهربة في أوروبا والولايات المتحدة.
عام 2018، كان عالم المصريات الفرنسي مارك غابولد مستغرقاً منذ أكثر من عام، في دراسة شاهد جرانيتي قديم، للتوصل إلى منشأ هذه القطعة الأثرية. لم يكن هذا الشاهد كأيّ قطعة أثرية أخرى؛ فهو مرسوم ملكي مكتوب على لوح ينسب لملك مصر الأشهر “توت عنخ آمون”.
حامت شكوك غابولد حول وثائق ملكية هذه القطعة؛ فأبلغ متحف اللوفر في فرنسا، الذي تجاهل تعليقاته. وتبع ذلك فتح السلطات الفرنسية التحقيق في سبع قطع أثرية مصرية، أخذت طريقها من فرنسا إلى متحف اللوفر في العاصمة الإماراتية أبو ظبي.
تأتي هذه التحقيقات عقب تحقيقات أخرى أجرتها السلطات الأميركية، بشأن مشروعية الاتجار في قطعة تابوت نجم عنخ، التي انتهت بإعادتها إلى مصر عام 2019. وتتقاطع التحقيقات الفرنسية والأميركية في قائمة المتهمين، وفيما هو أبعد من ذلك.
تحقيقات فرنسية
اعتماداً على مجريات التحقيقات الفرنسية، واستناداً إلى معطيات التحقيقات الأميركية، نتتبع خلفيات الأشخاص المنسوب إليهم ملكية القطع الأثرية المشتبه فيها، ونكشف عن تكرار سلسلة الملكية نفسها في قطع أثرية أخرى، انتهى بها المطاف في متاحف ومعارض حول العالم.
ونكشف أيضاً نمط تهريب بعض القطع الأثرية، بداية من خروجها من مصر عقب اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير 2011، وما صاحبها من اضطرابات، وصولاً إلى وقوعها في أيدي تجار أوروبيين من أصول عربية، تلاعبوا في مستندات ملكية القطع الأثرية ورخص تصديرها، مروراً بدخولها عبر الجمارك الأوروبية، في ظل عدم تطبيق السلطات الأوروبية أيّ إجراءات احترازية.
يُقدر عدد القطع الأثرية المسروقة -في أعقاب ثورة يناير 2011- من المتاحف المصرية بنحو ثلاثة آلاف قطعة. وبحسب منظمة “تحالف الآثار” الأميركية، تتراوح قيمة الآثار المسروقة ما بين ثلاثة إلى ستة مليارات دولار. كما اختفت أكثر من 32 ألف قطعة أثرية قبل دخولها مخازن وزارة الآثار، ومخزن آثار جامعة القاهرة، على مدار عدة عقود. في حين لا يوجد إحصاء رسمي بعدد القطع الناتجة عن التنقيب غير الشرعي، التي هُرّبت من مصر عن طريق تزوير مستندات ملكيتها ورخص تصديرها، ومن ثَمّ الاتجار بها في الخارج.

بداية التحقيقات
كانت عالمة المصريات، سوزانا توماس، أول من أطلق شرارة التساؤل عن شاهد توت عنخ آمون، عندما نشرت تغريدة تتساءل فيها عن الشاهد “الذي لم يسمع به أحد من قبل”.
لم تمر التغريدة على غابولد مرور الكرام؛ فقد أثار هذا السؤال فضوله للشروع في إجراء دراسة عن الشاهد الأثري عام 2019، بعد موافقة إدارة متحف لوفر أبوظبي.
أفضى غابولد بشكوكه حول ملكية الشاهد إلى متحف اللوفر، لكنّه لم يجد استجابة من المتحف. بعدها، بدأت السلطات الفرنسية تحقيقاتها في أصول تراخيص مئات القطع التي بيعت من داخل فرنسا لمتحف لوفر أبو ظبي، في شهري تموز/يوليو 2018، وآذار/مارس 2020، ووجهت الاتهام إلى دار عرض بيير بيرجيه الفرنسية ببيع قطع أثرية مشكوك في شرعية الاتجار بها بين عامي 2013 و2017، بقيمة تقدر بـ 56 مليون دولار أميركي.
وفي أيار/مايو 2022، وُجهت إلى مدير متحف اللوفر السابق جان لوك مارتينيز، اتهامات بالتواطؤ والاحتيال، والتعاون مع عصابة منظمة، وغسيل الأموال، وتأكد اتهام مارتينيز بعد رفض استئنافه.
وفي أيلول/سبتمبر 2023، أُلقي القبض على مالك معرض ديونيسوس للعملات والآثار القديمة، الألماني سيروب سيمونيان، بتهمة التورط في تهريب قطع أثرية مصرية، علاوة على تنسيقه عملية بيع آثار مشتبه في مشروعيتها، بين متحفي اللوفر بفرنسا وأبو ظبي عام 2016؛ من ضمنها بيع شاهد توت عنخ آمون، مقابل ثمانية ملايين و500 ألف يورو (تسعة ملايين و200 ألف دولار أميركي).
ولكن سيمونيان أنكر التهم الموجهة إليه، وأصر على أن القطع المصرية لم تُهرّب حديثاً، وأنها تعود لعائلته وخرجت من مصر في السبعينيات؛ أي قبل سن قوانين تنظيم الاتجار في الآثار بمصر.
ورغم إنكار سيمونيان، اعترف متهمان آخران؛ هما الفرنسيان كريستوف كونيكي وريتشارد سمبر، بتعاونهما في تزوير وثائق القطع الأثرية.
وتوصلت التحقيقات الفرنسية، مدعومة بآراء غابولد العلمية، إلى منشأ هذا الشاهد، وأنه كان في مدينة بازل السويسرية في التسعينيات من القرن الماضي. كما أشارت مستندات القطعة إلى ملاكها المزعومين السابقين؛ وهو ما عمّق الشكوك حول شرعية الاتجار بها.

تطابق سلسلة الملكية
تتشابه سلسلة ملكية قطعة شاهد توت عنخ آمون مع سلسلة ملكية بعض القطع الأثرية الأخرى؛ على رأسها تابوت نجم عنخ، الذي استعادته مصر من متحف “متروبوليتان” الأميركي عام 2019، بعد إثبات خروجه غير الشرعي من مصر في أعقاب ثورة 2011.
وترجع الملكية الأولى للقطع إلى تاجر آثار مصري يدعى حبيب تواضروس، ومنه انتقلت إلى ضابط بحرية ألماني يدعى يوهانس بيرنس في ثلاثينيات القرن الماضي، ومن بعده إلى أحد أقرباء بيرنس، بيرند ليمان، قبل أن تمر عبر دار مزادات بيير بيرجيه الفرنسية إلى متاحف ومعارض حول العالم.

يقول عضو لجنة التحقيق في فرنسا -رفض ذكر اسمه- إن بعض القطع الأثرية تنسب إلى مجموعات قديمة من دون وجود وثائق ملكية لها؛ ما يعقد من عملية التحقق من سجل ملكيتها، ويُسهّل -في الوقت ذاته- من عملية الاتجار غير المشروع فيها.
أثارت التحقيقات الفرنسية التساؤلات بشأن هوية حبيب تواضرس، الذي ترجع إليه الملكية الأولى لقطع الآثار المشتبه في مشروعية بيعها.
من خلال البحث، تبيّن أن تواضروس تاجر آثار مصري كان ينشط في تجارة الآثار في الأربعينيات من القرن الماضي، وكما جاء في كتاب “رفيق السائح المصري”، فإن متجر تواضروس يقع في شارع الجمهورية بالعاصمة المصرية القاهرة.
ووثّق كتاب “تجارة الآثار في مصر من عام 1880 إلى 1930″، عملية بيع تواضروس عدة قطع أثرية إلى المتحف المصري. كما حصلنا على نسخة من سجلات أرشيف المتحف المصري، تشير إلى اقتناء المتحف نحو 64 قطعة أثرية من حبيب تواضروس في الأربعينيات. كما ترجع إليه الملكية الأولى لمجموعة آثار أصلية بيعت بين عامي 1945 و1948.
وصدرت لحبيب تواضروس رخصة تحمل رقم 86 لبيع الآثار المُرخصة، وتضمن متجره خمسة آلاف و877 قطعة آثار أصلية؛ من بينها جعران وخرز من الفضة والذهب.
يقول المهندس يوسف رشيد، محاضر زائر ومؤسس قسم المصريات في وكالة Passion Passport: “المتحف المصري لم يشترِ آثاراً إلا من أشخاص موثوقة… ومن استغل اسم حبيب تواضروس، ومعلومات رخصة البيع الخاصة به، يعلم أنه ليس لديه أبناء أو أحفاد يرفعون دعوى بشأن استغلال اسمه”.
تقول دكتورة مونيكا حنا، أستاذة مساعدة بالآثار والتراث الحضاري، إن كل تاجر آثار مصري في أوائل القرن الماضي كان عليه أن يتقدم بطلب إلى المتحف المصري لإصدار رخصة الاتجار بمجموعة أثرية، وبعد فحص المجموعة تُصدر رخصة تصدير، متضمنة وصفاً دقيقاً لكل قطعة.
وعن رخص الاتجار بالآثار وتصديرها، تضيف أن غالبية الرخص، التي بيعت بمقتضاها آثار خارج مصر، مزورة عن الأصلية؛ إذ توقف العمل بالرخص الأصلية منذ عام 1979، وفق قرار وزير الثقافة رقم 14، ومُنعت نهائياً عام 1983، بموجب قانون حماية الآثار رقم 117.
ولكن هذه الرخصة سقطت في أيدي سيمونيان -وفق معطيات التحقيقات- لتستغلها العائلة في الاتجار غير المشروع في الآثار. فكيف أخذت هذه الرخصة طريقها إلى الأخوين؟
رخصة حبيب في يد سيمونيان
في 29 أيار/مايو 2019، أرسل مدعي عام نيويورك آنذاك سايروس فانس جونيور خطاباً إلى وزير الآثار المصري؛ يشرح فيه أن الأخوين سيمونيان استخدما نسخة مزورة من رخصة تحمل رقم 86 (المملوكة لتواضروس) في إجراءات بيع قطعة تابوت نجم عنخ إلى متحف متروبوليتان، بجانب استخدام هذه الرخصة في الاتجار في قطع آثار مصرية أخرى.
دلائل تزوير الرخصة:
1- مدون على الرخصة تاريخا إصدار: 11 أيار/مايو 1971 و1961.
2- ممهورة بخاتم مكتوب عليه “AR Egypt”، وقتها كان يُكتب على الخاتم المصري “UAR”.
3- كتابة الرقم 1 في التاريخ يدوياً باللون الأزرق.
4- لا تحمل الرخصة توقيع المدير العام لهيئة الآثار المصرية.
أربعة أشقاء
وصول سيمونيان إلى رخصة آثار حبيب تواضروس، دفعنا إلى البحث عن أصول عائلة سيمونيان وعلاقتها بتواضروس.
تتكون عائلة سيمونيان، ذات الأصول الأرمنية، من أربعة أشقاء مصريين، امتهنوا كلهم تجارة الآثار والمجوهرات. بدأ عمل العائلة بالآثار لأول مرة في القاهرة بمتجر تواضروس نفسه، عقب تسجيله باسمها.
وادّعت العائلة فيما بعد أنها تستخدم رخصة تواضروس، بموجب وكالة عن الورثة، وهو ما تدحضه التحقيقات الأميركية؛ إذ ألغت السلطات المصرية أيّ رخصة مملوكة لسيمونيان عام 1971، واتضح للمحققين أنه لم يكن مُصرحاً لعائلة سيمونيان بالاتجار في الآثار بموجب رخصة تاجر الأعمال الفنية تواضروس.
ويبدو أن التلاعب برخص الآثار المصرية القديمة أمر متكرر؛ إذ أشارت التحقيقات إلى استخدام الرخصة رقم 116 -المملوكة لتاجر الآثار المصري فرج عبد الرحيم الشاعر- في تزوير فواتير بيع بعض القطع الأثرية، وشهادات ملكيتها.

الجواهرجي الأرمني
نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 9 شباط/فبراير عام 1975 خبراً بعنوان “الجواهرجي الأرمني قُتل في سقارة لخلاف على صفقة تهريب آثار”. تضمن الخبر تفاصيل عن حادث مقتل الأخ الرابع للإخوة سيمونيان -إبراهام سيمونيان- في سقارة بالبدرشين خلال الاتفاق على صفقة تهريب قطع أثرية خارج مصر.
بعد هذه الحادثة، نقل الإخوة الثلاثة محل إقامتهم إلى خارج مصر؛ أحدهما إلى الولايات المتحدة، والآخران إلى ألمانيا.
وفق التحقيقات الأميركية، هاجر الإخوة سيمونيان إلى ألمانيا والولايات المتحدة وبحوزتهم الرخصة 86 المُلغاة، مرفقين بها وثائق ملكية مزورة، لاستخدامها في تداول القطع الأثرية؛ إذ يقتضي تداول الآثار -وفق معاهدة اليونسكو عام 1970- وجود رخصة تصدير سارية، ووثائق ملكية، و/أو فواتير بيع وشراء.
وانتهى المطاف بالرخصة إلى حافظة المستندات، التي قدمها ريتشارد سيمبر إلى القاضي، ضمن الوثائق والأوراق التي اعترف هو وكونيكي بتزويرها واستخدامها في تداول القطع الأثرية.

شكوك بشأن الألماني يوهانس
اقترن اسم تواضروس بالألماني يوهانس بيرنس -المولود والمتوفى في مدينة بريمن- في سلسلة ملكية بعض القطع الأثرية، موضع التحقيق في فرنسا.
ويزعم تجار القطع الأثرية، التي كانت تعود لبيرنس ضمن سلسلة مالكيها السابقين، أنه ضابط بحرية ألماني، اقتنى مجموعته الأثرية خلال سنوات نشاطه ما بين عامي 1930 و1936، لكنّ عالم مصريات مطلع على القضية -رفض ذكر اسمه- يؤكد عدم وجود دليل على نشاط تواضروس في الثلاثينيات؛ أي في الفترة التي يُزعم أن بيرنس اقتنى في غضونها قطعاً أثرية منه.
ويرجح المصدر ذاته أن الإخوة سيمونيان وروبين ديب اختلقوا هوية بيرنس؛ لتزوير مستندات ملكية قطع أثرية، زاعمين أنه حازها قبل تشريع القوانين التي تُنظم بيع الآثار.
وجاء في التحقيقات الأميركية أن روبن ديب اعتاد تزوير مستندات ملكية وفواتير بيع قطع أثرية، عند بيعها في السوق الدولية، مدعياً أن التجار المصريين باعوها قديماً إلى هواة جمع آثار يحملون الجنسية الألمانية، أو إلى عائلة سيمونيان مباشرة.
بالبحث في دليل “Grabsteine” الألماني التابع لموقع “Genealogy” المعني بعلم الأنساب، عن لقب بيرنس؛ ظهرت أكثر من أربعة آلاف نتيجة، تشترك كلها في عدم تطابق تاريخي الميلاد والوفاة مع تاريخ ميلاد ووفاة بيرنس المذكورين في مستندات الملكية (1874-1947)، فضلاً عن عدم وجود شخص يُدعى يوهانس بيرنس ضمن سكان مدينة بريمن الألمانية.
وتُنسب إلى مجموعة يوهانس بيرنس ست قطع أثرية بيعت في الفترة بين عامي 2009 و2016؛ من بينها قطعة على شكل رِجل طاولة برأس ماعز، اقتناها متحف بوسطن الأميركي عام 2010.
تقول مديرة التسويق والاتصالات بالمتحف، كارين فراسكونا، إن وزارة الخارجية الأميركية كشفت أن وثائق تاريخ ملكية القطعة مشكوك في أصالتها؛ ما قد يشير إلى نهب أثري جديد.
سلسلة ملكية قطعة الشاهد الأثري، اجتمعت في قطعة أثرية أخرى، وجدت طريقها هذه المرة إلى سويسرا.
لوحة الفيوم الأثرية
تتشابه بيانات الملكية الأولى ومسار البيع المشبوه، مع سلسلة ملكية لوحة أثرية مصرية، اقتناها الملياردير السويسري من أصول مصرية جان كلود غاندور.
حصل غاندور على قطعته الأثرية عام 2014 من معرض فينكس للفن القديم في جينف -الذي اقتناها من دار مزادات بيير بيرجيه- مقابل مليون يورو (نحو مليون و69 ألف دولار أميركي).
تشير مستندات القطعة أن مالكها الأول -حبيب تواضروس- باعها عام 1936 إلى يوهانس بيرنس، ثم انتقلت منه إلى مجموعة خاصة في ألمانيا أسست عام 1986، قبل أن تطرح للبيع في دار المزادات الفرنسية عام 2013. ونظراً للشكوك التي تحيط بها، قدم غاندور القطعة للقضاء الفرنسي للتحقيق فيها.
لا تتوفر الكثير من المعلومات عن اللوحة النصفية، سوى أنها تنتمي للوحات ذات الكفن الأحمر. وبحسب معرض فينيكس للفن القديم 2014؛ فإنها ربما تعود إلى بداية القرن الثاني، في عهد السلالة الأنطونية.
ومن المحتمل أنها ترجع إلى زمن تراجان في الفترة بين عامي 98 و117 ميلادياً بسبب تسريحة الشعر، بحسب الدليل الأكاديمي “لصور الفيوم”. وأشار الدليل إلى احتمالية وجود علاقة محتملة بين هذه اللوحة ولوحتين من لوحات وجوه الفيوم، بسبب التشابه الجسدي بينهما.
يرجح المدير السابق للمتحف القبطي في مصر، الدكتور عاطف نجيب، أن هذه اللوحة تنتمي إلى مجموعة “لوحات الفيوم”؛ ويعتقد أنها سرقت وبيعت في الخارج.
تداول هذه القطع الأثرية في الخارج، والاشتباه في تهريبها من مصر، دفعنا إلى التعمق في معرفة طرق تهريبها. وعلى الرغم من ندرة المعلومات المتوفرة في هذا الشأن، فإن التحقيقات الأميركية تلقي الضوء على جانب من عمليات تهريب الآثار من مصر.

مسار التهريب
في كانون الأول/ديسمبر 2011، أرسل تاجر آثار يدعى علاء حسين صوراً وفيديوهات لتابوت نجم عنخ إلى ديب، بعد العثور عليه جراء تنقيب غير شرعي جرى في محافظة المنيا (268 كيلومتراً جنوب القاهرة).
بمساعدة رجل أعمال إيراني يدعى حسن فاضلي، تمكّن ديب من تهريب التابوت خارج مصر عام 2012، عبر طرد شحن، مقابل خمسة آلاف يورو (خمسة آلاف و513 دولاراً).
نقل فاضلي هذه القطعة من ميناء دمياط إلى ميناء دبي، باستخدام شهادة تصدير مزورة وطوابع بريدية غير متسقة، وفاتورة وهمية من شركة بالإمارات، كما أورد معلومات منشأ مضللة؛ مفادها أن التابوت يوناني روماني ومصنوع من الجبس، وليس مصرياً مصنوعاً من الذهب. ويعتقد المحققون أن فاضلي ادّعى أن التابوت “يوناني روماني”؛ لتعقيد عملية تتبعه.
ومن الإمارات، أرسل فاضلي التابوت إلى ألمانيا ببوليصة شحن جوي، بوصفها تحتوي على “صندوق خشبي وغطاء”، وأن مصدرها “تركيا”؛ وهو نمط متكرر في عمليات التهريب المتهم بتنفيذها حسن فاضلي.
ويرى المحققون الأميركيون أن تزوير المحتويات والقيم وبلد المنشأ وسيلة للتحايل على القانون، ولتجنب مراقبة الحدود.
وبمجرد وصول القطع ألمانيا، يعمل ديب على تزوير مستندات ملكيتها، ناسباً إياها إلى هواة اقتناء الآثار القدامى، أو إلى عائلة سيمونيان، على غرار ما حدث في قطعة التابوت.
وبيعت عدة قطع أثرية من مساعد سيمونيان إلى المتاحف والمعارض وهواة اقتناء الآثار، عبر شركة مملوكة للفرنسي كريستوف كونيكي، أو لدار المزادات الباريسية بيير بيرجيه.
وتنتقل القطع الأثرية من ألمانيا إلى باريس -حيث ظهر التابوت المصري في أيلول/سبتمبر 2015- من دون مستندات شحن جمركية؛ نظراً إلى عدم وجود ضوابط حدودية بين ألمانيا وفرنسا، كونهما ضمن حدود منطقة شنغن.
التحايل على القوانين الأوروبية
دخول الآثار المصرية إلى أوروبا بمستندات مزورة، يأتي بالتحايل على قوانين الآثار المُطبَّقة داخل حدود الاتحاد الأوروبي؛ فلائحة المجلس الأوروبي رقم 116 لسنة 2009 تنص على ضرورة وجود رخصة تصدير للآثار التي يتجاوز عمرها 50 عاماً، وسعرها يتراوح بين 15 ألف يورو (15 ألف و600 دولار أميركي) و150 ألف يورو (160 ألف دولار أميركي)، عند تصديرها إلى دولة من دول الاتحاد الأوروبي.
رغم هذا، كشف تقرير صادر عام 2016 عن مفوض الحكومة الفيدرالية للثقافة والإعلام بشأن حماية الممتلكات الثقافية في ألمانيا -التي دخلت عبرها القطع الأثرية موضع التحقيق- أن قوانين الآثار المطبقة بها ليست فعالة؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالتدقيق في رخص تصدير القطع الأثرية.
وتعمل دول الاتحاد الأوروبي حالياً بلائحة البرلمان والمجلس الأوروبي 880 لعام 2019 التي نصت مادتها 12 على ضرورة إثبات شرعية تصدير القطع الأثرية من بلد المنشأ، باستخدام المستندات والأدلة الداعمة المناسبة؛ مثل شهادات التصدير، وسندات الملكية، والفواتير، وعقود البيع، ووثائق التأمين، والنقل.
ويوضح الدكتور محمد الشهير، الخبير القانوني والمحكم الدولي، أن اتفاقية UNIDROIT بشأن القطع الثقافية المسروقة -المطبقة منذ عام 1998- تُلزم دول الاتحاد الأوروبي بالتحقق من مشروعية الاتجار في القطع الأثرية الواردة إليها.
من وإلى الإمارات عبر ألمانيا
بعد عام 2011، وصلت بعض القطع الأثرية إلى معرض ديونيسوس للعملات والآثار القديمة، المملوك للأخوين سيمونيان، والذي يديره رون ديب.
خلال هذه الفترة، توطّدت علاقة ديب بالفرنسي كونيكي؛ والتي بدأت عام 2010 عقب زيارة الأول إلى دار مزادات بيير بيرجيه، حيث تعرف على كونيكي الذي يملك شركة “يورول كريستوف كونيكي” للاتجار في القطع الأثرية.
وتعاون كونيكي مع ديب في تزوير مصدر القطع الأثرية؛ إذ استخدم بالاشتراك مع صديقه ريتشارد سيمبر، آلة كاتبة ألمانية قديمة؛ لتزوير مستندات ملكية تلك القطع، مرجعين إياها إلى هواة جمع القطع الأثرية.
ثم بدأ كونيكي بعرض قطع أثرية مملوكة لسيمونيان في صالة العرض الخاصة بشركته في باريس. ثمّ بعدها اشترى متحف اللوفر الفرنسي، ونظيره الإماراتي، عدة قطع أثرية من هذا المعرض، في الفترة بين عامي 2013 و2018.
القطع التي حصل عليها لوفر أبو ظبي عبر كونيكي:
مجموعة الأميرة حنوت تاوي الجنائزية مقابل أربعة ملايين و500 ألف يورو (أربعة ملايين و900 ألف دولار).
تمثال كليوباترا مقابل 35 مليون يورو (نحو 39 مليون دولار).
شاهد توت عنخ آمون.
تمثال إيزيس مقابل 135 ألف يورو.
منحوتة قارب خشبي مقابل مئتي ألف يورو.
منحوتة فرس النهر مقابل 900 ألف يورو.
لوحة من بورتريهات الفيوم.
من المفترض أن تعمل السلطات المصرية، ممثلة في الإدارة العامة للآثار المستردة، على استرجاع القطع الأثرية التي بيعت عبر مزادات ومعارض أوروبية إلى متاحف فرنسية وإماراتية. وتختص هذه الإدارة برصد وتتبع القطع الأثرية المسروقة، والمهربة خارج البلاد بطرق غير شرعية، والعمل على استردادها وإعادتها إلى مصر بكل السبل الممكنة؛ سواء كانت دبلوماسية أو قضائية.
توجهنا إلى وزارة الآثار لمعرفة جهودها في استعادة الآثار المشار إليها؛ فرفضت الإدارة العامة للآثار المستردة مدنا بأيّ معلومات بهذا الشأن؛ معللة رفضها بأن “كل ما سُئِل عنه قيد التحقيقات، وغير مسموح الحديث عنه”.
أنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة أريج كما أسهم فيه فيليب ريلتيان (وحدة التحقيقات الاستقصائية في راديو فرنسا) وعايدة دلبوش.
اقرأ أيضا:
كواليس سقوط «ألماجيا» زعيم عصابات المقابر.. آثار الإسكندرية المسروقة بخط يده في «الكتاب الأخضر»