حكاية عيد وفاء النيل

“ولا بيوصل ولا بيتوه، ولا بيرجع ولا بيغيب، النيل سؤال ومازال ماجاش عليه الرد”، كلمات غناها المطرب محمد منير، ولكنها لخصت قصة النيل وارتباط المصريين به.

اعتاد المصري القديم الاحتفال بعيد فيضان النيل، أي عندما يفيض النيل وتزيد مياهه طوال 48 يوما، وخصص الاحتفال به في الرابع عشر من شهر مسري والذي يوافق يوم 20 أو 21 من شهر أغسطس، ومن خلال هذا التقرير سنتعرف أكثر على قصة عيد وفاء النيل.

الاحتفال بعيد وفاء النيل - ويكيبيديا
الاحتفال بعيد وفاء النيل – ويكيبيديا

عيد وفاء النيل

يقول الدكتور ناجح عمر، عميد كلية الآثار بجامعة الفيوم، إن الفيضان كان يغمر كل أراضي مصر (الوادي والدلتا)، وقد ربط المصري القديم هذا المنظر بحالة الكون قبل ظهور اليابسة، فكان عبارة عن ماء أزلي أطلق عليه مصطلح (نون)، وهو أحد العوامل التي ارتبطت بأساطير خلق الكون عند المصري القديم، فعند انحسار هذا الفيضان تظهر الأجزاء المرتفعة من الأرض التي أوجدت عند المصري فكرة التل الأزلي الذي وقف عليه المعبود الخالق وخلق هذا العالم (عالم مصر).

ويضيف عمر، أنه لجلال الفيضان، وضع المصريون القدماء معبودا له وأعطوه صفات تتماشى مع قوة اندفاع المياه وما يحمله من خير وخصوبة لأرض مصر وأطلقوا عليه المعبود “حابي” وارتبط بعرش الملكية فهو الذي يمنح الملك الخير والخصوبة والتي يمنحها بدوره لشعب مصر.

الفيضان وفصول السنة

يتابع عميد كلية الآثار: كان الفيضان يبدأ عند بزوغ نجم سوبدة الذي كان يبشر بقدوم الفيضان، وهذا أدى إلى اعتماد المصريين على الظواهر الطبيعية التي تحيط بهم من فيضان النهر وانحساره في زراعة الأرض وحصادها، وفي علم الفلك ربط المصري القديم بين ظهور نجم سوبدة قبيل ظهور شروق الشمس – وهي ظاهرة لا تتكرر سوى مرة واحد كل عام في شهر أغسطس –  وتوافقه مع بداية وصول مياه الفيضان، ما جعله المصري القديم بداية للعام الجديد والذي قسمه إلى ثلاثة فصول كل فصل يضم أربعة أشهر، ثم أضافوا في نهاية السنة خمسة أيام ليكتمل عدد أيام السنة المصرية إلى 365 يومًا، إلى أن تتكرر ظاهرة شروق نجم سوبدة مرة أخرى وبالتالي تبدأ سنة جديدة.

ويشير إلى أن المصري القديم تأثر عند اختياره لأسماء الفصول بطبيعة كل فصل، فأطلق على فصل الفيضان اسم (آخت) أي (المفيد أو النافع) حيث يتميز هذا الفصل بالفيضان الذي يجلب معه الخير للأرض والإنسان والحيوان، وأطلق على فصل الشتاء أو فصل الزراعة اسم (برت) أي (الخروج) حيث يخرج الفلاحون لزراعة الأرض بالمحاصيل والغلال ليحصلوا منها على الخبز، بينما الفصل الثالث فصل الحصاد أو الصيف فأطلق عليه اسم (شمو) أي (الحار) حيث يخرج الفلاحون للحصاد وجمع المحاصيل وفيه تقل وتجف مياه النهر، وكان لفصول السنة أثر كبير في حياة المصري القديم مما دفعه إلى ابتكار وسائل عملية للاستفادة من طبيعة كل فصل لذا ابتكر مقاييس لتحديد ارتفاع الفيضان وتحديد كمية المياه اللازمة لري الأراضي الزراعية وتقدير الضرائب على المحاصيل.

 مظاهر الاحتفال

يسرد عمر قصة الفيضان، أنه كان يمثل عيد بداية العام عند المصري القديم ويستقبلوا الفيضان بالفرح الشديد فهو الخير القادم لإعادة الحياة والخصوبة لأرض مصر بعد فصل الصيف الحار وقلة المياه بالنهر والترع والقنوات، وتأثر الفكر الديني كثيرا بفصول السنة فكان التل الأزلي وهو العامل المشترك بين كل أساطير الخلق التي تفسر بداية الكون ما هو إلا تلك الأرض التي تبرز وترتفع أثناء انحسار الفيضان، وأحيانا يطلق المصري على الفيضان عند وصفه لشدته اسم (نون).

ويشير عمر إلى أن المصري القديم خصص معبودا للفيضان ومنحه صفات تتناسب وقوة اندفاعه وصفات تتفق وما يحمله من خير وخصوبة، كما ارتبط معبود الفيضان بعروش الملوك فهو الذي يمنح الملك الخصوبة والخير والذي يمنحه الملك بدوره إلى شعبه، وغالبا ما صور “حابي” آله النيل على جدران المعابد في الصف الأسفل ليرمز إلى أنه أساس المعبد وضامن الخيرات والقرابين المقدمة لمعبودات المعبد.

كما ارتبط بالفيضان معبودات أخرى خاصة “خنوم” الذي يتحكم في مياه الفيضان فيرسلها أو يمسكها، وهو صانع البشر من طمي الفيضان، وكان أوزيريس ربا لكل الفصول فهو القوة الكامنة في الفيضان وهو الثور الأسود لون طمي الفيضان وهو الذي تنشق عنه الأرض وتعود روحه كما تعود الروح إلى البذرة الميتة، وهو رب الحصاد حيث يتحول إلى “نبرى”.

ويري عمر، أن تحديد أعياد خاصة بكل فصل جاء لهدفين الأول: الاحتفال بتلك المعبودات طلبا لرضاها وخيراتها، والثاني: محاولة ضبط السنة المصرية القديم، لذا خصصوا لكل فصل أعياد تتوافق وطبيعة الفصل نفسه، وزيادة في إحكام السنة المصرية القديمة ربطوا بين أسماء الأشهر وبين معبوداتهم وبين أعياد تلك المعبودات.

الاحتفال بالنيل عند الفراعنة- الصورة من ويكيبيديا
الاحتفال بالنيل عند الفراعنة- الصورة من ويكيبيديا

أنشودة النيل في عهد الفراعنة

يذكر أنطوان زكري في كتابه “النيل في عهد الفراعنة والعرب”، أن المصري القديم سجل في لوحتين على الورق البردي، معروفتين بورقتي ساليير وأنسطاسي، وهما من مجموعة الأوراق البردية المحتفظ بها إلى الآن في المتحف البريطاني، وترجمها العالمان الأثريان الشهيران ماسبرو وجبس، وهما اللذان نقلاها من الشعر المصري القديم، ويقول مطلع النشيد:

” الحمد لك يا نيل، يا من تخرج من الأرض وتأتى لتغذى مصر، يا ذا الطبيعة المخيفة، ظلام فى وضح النهار، إنه الذى يروى المراعي، وهو المخلوق من رع ليغذي كل الماشية، وهو الذى يسقى البلاد الصحراوية البعيدة عن الماء، فإن ماءه هو الذى يسقط من السماء، هو المحبوب من جب، ومدبر شؤون إله القمح، وهو الذى ينعش كل مصنع من مصانع بتاح، رب الأسماك وهو الذى يجعل طيور الماء تطير نحو الجنوب، إنه هو الذى يصنع الشعير والقمح وبذلك تتمكن المعابد من إقامة احتفالاتها”.

وبالعودة لكتاب “النيل في عهد الفراعنة والعرب” يذكر المؤلف أن الاحتفالات التي تُقام لفيضان النيل سنويًّا كانت بمنزلة فريضة دينية، وكان يقام لها الزينات المعتادة للأعياد العامة.

وكان يتم خلال الاحتفال ذبح قربان قد يكون عجل أو دجاجة، ثم تلقى فى النيل رسالة بها بعض الصلوات والمدائح في النيل، وكان الملك يحضر الاحتفال ومعه القادة ورجال الدين وسط جميع طوائف الشعب، وقد وجد على سفوح جبل السلسة شمال أسوان ثلاث لوحات تضم ثلاثة مراسيم في الفترة ما بين 1300 ــ 1225 ق.م تقر بأن يقام احتفال للإله حابى مرة عند أعلى ارتفاع للفيضان ومرة أخرى عند أدني ارتفاع، ويتقرب خلالها بقرابين من الحيوانات والخضروات والزهور والفاكهة.

كما جاء ذِكر أعياد النيل في مائدةٍ للقرابين محفوظة في متحف فلورانس بإيطاليا، ويرجع تاريخها إلى ملوك الأسر الثلاث الأولى، وقال المؤرخ ماسبرو عن العيد الفيضان “عندما يصل الماء المقدس إلى جدران مدينة “سين” يقدم الكهنة أو الحاكم أو أحد نوابه ثورًا أو بطًّا، ويلقيه في الماء في حرز من البردي مختوم عليه، ويكتب في الحرز الأمر الملكي الخاص بنظام الفيضان، ومتى ترأس الملك نفس هذا الاحتفال نقشوا في الصحراء وسجلوا هذا الحادث تذكارًا تاريخيًّا، وإذا تغيب الملك عن الاحتفال ناب عنه الكهنة باحتفال عظيم، حاملين تمثال المعبود سائرين به على ضفاف النيل والجسور مرتلين الأناشيد.

وقد أشار العالم الأثري “دي روجيه” إلى الاحتفال أيضا وقال: “في اليوم الخامس عشر من شهر توت جاء فيضان النيل في سلسلة، وفي 15 أبيب صعد النيل فقدمت القرابين والهدايا للمعبود “حابي”، وفي ذاك اليوم كانوا يلقون له ميثاقًا مكتوبًا من ديوان الملك، فيقبل النيل هذا العهد ولا يتخلف عن وعوده فيمنح مواهبه أرض عبيده المؤمنين”.

عيد ليلة النقطة السماوية

روى “سنيك” الفيلسوف الروماني، أن المصريين في عهد الرومان كانوا يلقون في نهر بيلاق القرابين، ويُلقي الحكام بعدها هداياهم من الذهب وأنواع الحليِّ المختلفة.

واستمر المصريون على عاداتهم في الاحتفال بأعيادهم، وكما كان يعتقد الفراعنة أن سبب الفيضان نزول دمعة المعبودة إزيس في النيل، اعتقد الأقباط أن النيل يفيض بنقطة تنزل من السماء، ويحتفل في اليوم الحادي عشر من شهر بئونة بعيد “ليلة النقطة السماوية”، التي تنزل بفضل دعوة وصلاة رئيس الملائكة جبرائيل قبل نزولها بثلاثة أيام حيث يسجد ويتوسل إلى ربه بأن يفيض النيل وينزل إلى الأرض المطر والندى.

 العصر المملوكي والعثماني

حينما دخل العرب مصر، محوا كثيرا من العادات والتقاليد التي كانت متبعة في الاحتفال بالفيضان، لكنهم لم يتمكنوا من محو الاحتفال تماما، بل اضطروا إلى إتباع التقاليد المصرية للاحتفال بفيضان النيل، وفى العصر المملوكي كان الاحتفال يبدأ يوم 26 بؤونة وبعد أن يصل قياس ارتفاع مياه الفيضان إلى 16 ذراعا، يبدأ احتفال شعبي ضخم تضيء فيه القناديل والشموع كل الشوارع، وينتشر الرقص والغناء، وتباع الخمور بكثافة.

ويصف المؤرخ ابن إلياس في كتابه “بدائع الزهور” ليلة من ليالي احتفال المماليك بالنيل “خرجت سفينة سلطان مصر وعامت من بولاق وهي متزينة بالورد والأعلام واستقبلها الأمراء بالطبل والزمامير عند مقياس فيضان النيل”.

ويتناول عبدالرحمن الجبرتى احتفال العثمانيين ويقدم وصفا تفصيليا ليوم الاحتفال بداية من نزول الوالى من القلعة وركوبه هو والأمراء مراكب مزينة تنطلق من مصر القديمة حتى تصل إلى مقياس النيل بالروضة، وعندما يصل مقياس الفيضان إلى 16 ذراعا، تقام الاحتفالات التي يعطي الوالي إشارة البدء بها، وذلك بعد أن يضرب السد الذي يحجز الماء بمعول من فضة محدثا فتحة يخرج منها الماء إلى قناة فم الخليج.

النيل في أبوسيف- تصوير: هادي أبوالعز
النيل في أبوسيف- تصوير: هادي أبوالعز

عروس النيل

سادت في الاعتقاد الشعبي فكرة روج لها المؤرخ العربي أبوالقاسم عبدالرحمن بن عبدالحكم في كتابه “فتوح مصر والمغرب”، أن المصريين كانوا يلقون فتاة شابة مزينة بالحلي ليفيض النيل.

وظل طقس إهداء النيل فتاة شابة في عيد وفاءه مستقر في الأذهان، لكن تم استبدال الفتاة بدمية خشبية على شكل فتاه آدمية، وتذكر الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها “القاهرة في حياتي”، أن حكاية عروس النيل ليس لها أساس تاريخي.

ويقول عباس محمود العقاد في كتابه “عبقرية عمر”، وعقب العقاد على روايةُ ابن عبد الحكم قائلا ” الرواية على علاتها قابلة للشك في غير موضع عند مضاهاتها على التاريخ”.

كما يقول عميد كلية آثار الفيوم، إن هذا غير صحيح ولا يوجد ما يؤكد ذلك عند المصري القديم.

طقوس النوبة

هناك العديد من الطقوس الخاصة بالنيل في النوبة ومستمرة إلى الآن منها “كمولود” أو السبوع، وهي طقوس عقائدية ترتبط بهم في شتى المناسبات سواء الوفيات، أو الزواج، أو المواليد، ففي ليلة الزفاف يذهب العروسان ليغتسلان من ماء النيل لجلب الخير وإنجاب الأطفال، وفي حالة الرزق بمولود جديد تحمله الجدة وتذهب به إلى نهر النيل وسط الأحباب والأهل والأطفال، وتحمل سيدة أخرى طبق من العصيدة وهي أكلة تصنع من القمح والسمن واللبن، ويبدأ الاحتفال عند شاطئ النهر بإلقاء سبعة لقيمات من العصيدة، لملائكة النهر مع الترديد بالدعوات لحصول الطفل على الصحة وطولة العمر، ثم يتم غسل وجه المولود والأم من ماء النهر، ثم يغسل باقي الحضور وجوههم للتبرك، ثم يتذوق الجميع من طبق العصيدة ويغسل بعدها الطبق في النيل.

النيل من المنصورة - تصوير: محمود الحفناوي
النيل من المنصورة – تصوير: محمود الحفناوي

قياس ماء النيل

كان قديما يتم تكليف مجلس شرعي إداري بمهمة رصد زيادة مياه النيل، وكانت جباية الضرائب ترتبط بهذا القياس، إذ كانت واجبة وملزمة إذا وصلت زيادة المياه في النيل إلى 16 ذراعا فأكثر، ويتم الإعفاء منها إذا كان مقياس المياه أقل من 16 ذراعا، وبرغم التقدم الذي رافق ثورة 1952‏،‏ إلا أنها أبقت على هذا التقليد وظل راسخا وهو المجلس الشرعي الإداري الذي كانت مهمته رصد وقياس فيضان النيل، وتولى رئاسته رئيس المحكمة الشرعية العليا حتى ألغيت تلك المحاكم،‏ وكان يتولى رئاسة المجلس مفتي الديار المصرية‏.

والأمر المثير للدهشة أن تكوين هذا المجلس ومهامه ظلت كما هي حتى عام 1972، وهو العام الذي انتهي فيه عمل المجلس بعد أن فرض الواقع الجديد نفسه حيث لم يعد النيل يفيض بفضل مشروعات ري كبرى أعظمها مشروع السد العالي.

نص آخر حجة لوفاء النيل

وقع الشيخ حسن مأمون، مفتي الجمهورية، عام 1958 على آخر حجة لوفاء النيل وجاء فيها:

“بعد الإقرار الصادر أمامنا من السيد المهندس فؤاد عبد العزيز زكي مدير مكتب وكيل وزارة الأشغال وهو الثقة المعين من قبل حكومة الجمهورية العربية المتحدة لقياس النيل بمقياس الروضة، وبعد الاطلاع على الكشف المحرر بتاريخ اليوم بمعرفة سيادته وسماع شهادة الشهود، المتضمن ذلك جميعه، أن النيل بلغ في هذا العام بمقياس الروضة اثنين وعشرين ذراعًا وتسعة عشر قيراطًا، وإقرارهم بأنه ببلوغ فيضان النيل هذا المقدار، يتوفر ري الأراضي المصرية، تحقق لدينا نحن حسن مأمون مفتي الجمهورية العربية المتحدة وفاء النيل المبارك في هذا العام، وبذلك وجبت جباية جميع أنواع الضرائب المقررة بمقتضى القوانين واللوائح والنظم المعمول بها، واستحقت كافة الأموال والمرتبات والمستندات للخزانة المصرية العامة، كما هو متبع في كل عام، وتمت نعمة الله تعالى على هذه البلاد بكمال فيض نيلها المبارك سبب نماء رزقها ومصدر حياتها، فحق علينا جميعا حمده سبحانه والثناء عليه بما هو أهله”.

الهوامش

كتاب بدائع الزهور لابن إلياس.

كتاب النيل عند الفراعنة والعرب لأنطوان زكري.

اقرأ أيضا

من هي عروس النيل؟.. حابي يجيب

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر